لعل أكثر ما يجمع بين فنان الغناء الكبير عبد الحليم حافظ، وفنان التمثيل الكبير أحمد زكي، هو أخذ الحياة، والفن، بجدية تليق بالحياة وبالفن، قبل أي قواسم مشتركة أخرى أو قسمات.

Ad

كلاهما جاء من محافظة واحدة في دلتا مصر الشرقية ومن حالة اجتماعية فقيرة ليصعدا إلى قمة فنهما ووطنهما، كلاهما ظل حتى النفس الأخير يعطي الحياة إبداعه ويمنح شذاه وأسدل الستار على حياته وهو واقف على خشبة المسرح لا يئن ولا يدخر جهداً، كلاهما رحل في أخر شهر مارس مع ميلاد الربيع، وكأنهما يبدآن مع تفتح الورود وغناء الأشجار حياة جديدة ومواسم مستمرة وعطاءً متجدداً.

كيف لا؟

هذا هو شأن الفن والعطاء الحق الصادق، إنه خالد ودائم الحضور والتأثير والإشعاع، لا يموت الصدق ولا العمل الصالح وتلقى الجدية والتفاني لأجل الحق والخير والجمال الاحترام أبداً.

كان التحدي الأول أمام الشاب الواعد عبدالحليم، تقديم روح جديدة في الغناء مع أقرانه في الموسيقى والتلحين اي مدرسة جديدة من بينهم: محمد الموجي، كمال الطويل، على إسماعيل، وفي كتابة الأشعار والأغنيات مع: مرسي جميل عزيز، صلاح جاهين...

أحبّ المدرسة السابقة وقطبها محمد عبد الوهاب واستفاد هو وأقرانه من المدارس والمنجزات والمراحل السابقة الرائدة والمؤثرة، لكن مع كل المحبة والوقار وضرورات الاستفادة والتعلم، اعتبر عبدالحليم وصحبه بحق أنهم أبناء جيل وعصر مختلفين، لهما روحاهما وذائقتهما وحساسيتهما الخاصة، وليس مصادفة أن يبزغ هذا الجيل في لحظة انطلاق عصر جديد ونهوض وطني جديد: هو ثورة يوليو 1952.

غنى عبد الحليم حافظ للحب والعواطف الجميلة والوجدان وغنى للنهوض والوطن الصاعد والتغيير الثوري ونبل القائد، غنى من قلبه ووظف دراسته ومواهبه ولم يترنم إلا بأصدق المشاعر وكل ما يختلج حقاً به، لذلك أدى بطريقته وأسلوبه وروحه.

كان ذلك جزءاً لا يتجزأ من روح العصر ذاته فاستمر صدقه، وستظل الأجيال تصدقه وتعتز به وتطرب له ولأغانيه الشجية، سواء في حفلاته وألبوماته، أو في أفلامه البسيطة العذبة، حيث يدخل تمثيله التلقائي وفن الأداء لديه إجمالاً (غناء وتمثيلاً) القلب.

وكما تصدّر عبد الحليم حافظ جيله في الغناء، تصدّر أحمد زكي جيله في التمثيل، يقر بذلك أكثر أبناء جيله نضجاً في التمثيل ومنهم نور الشريف الذي يردد على الدوام «زكي يتقدمنا».

ومثلما كان عبد الحليم يتطور باستمرار ويزداد نضجاً، ويحرز نجاحاً، كذلك كان زكي. من أفلامه المتميزة الجميلة مع الراحل السينمائي المبدع الكبير المخرج عاطف الطيب «الحب فوق هضبة الهرم»، «التخشيبة» و«البريء» إلى رائعته ورائعة المخرج المتفرد داود عبدالسيد «أرض الخوف» وتجسيده شخصية طه حسين في المسلسل التلفزيوني «الأيام» في بداية مشواره إلى ذروة نضجه في شخصية قائد الثورة جمال عبدالناصر في فيلم «ناصر 56»، وأدائه البارع، الذكي حقاً، للإنسان العادي البسيط و«الهامشي» في سينما موجة التجديد أو «الواقعية الجديدة» في حقبة الثمانينات، إلى حلمه الذي ظل يؤرقه إلى آخر لحظة بتجسيد أبرز الشخصيات المؤثرة في التاريخ السياسي المصري الحديث، لتقوم السينما بـ«الدور الفكري التنويري التعليمي»، كما كان يراه باستمرار.

وربما ليست مصادفة بعد هذا كله، أن يقف أحمد زكي أمام كاميرا السينما للمرة الأخيرة، مؤدياً دور عبدالحليم حافظ نفسه، ويتفانى وتفنى الشمعة حتى الضوء الأخير وهو يواجه ويصارع ببسالة منقطعة النظير المرض العضال.

أي شعور كان يجتاحه، وهو يؤدي لحظات عبد الحليم في مرضه الخطير ومغادرة الحياة، بينما هو نفسه يقاوم المرض ويعرف أنه يصارع في اللحظات الأخيرة.

أي قوة هذه، وأي إيمان بالفن والحياة؟ وأي جدية وتفان؟

لذا وبحق... الخلود لأحمد زكي... والخلود لعبد الحليم حافظ.