Ad

ما كان يجب أن يُلوِّح محمود عباس بالاستقالة لا في المرة الأولى ولا في المرة الثانية، فالاستقالة في هذه الظروف وفي هذه المرحلة الدقيقة والحساسة، هي هروب من معركة المفاوضات التي هي أصعب وأقسى وأخطر من معركة السلاح.

ما كان ضروري التلويح وللمرة الثانية بأن الرئيس محمود عباس (أبو مازن) سيلجأ إلى تقديم استقالته ويترك الأمور، وليحصل ما سيحصل، إن لم ينجح مؤتمر الخريف المقبل، الذي بدأت تصدر إشارات من الداعين إليه بأنه قد يتأجل، فهذا ما يريده اليمين المتطرف سواء على الطرف الفلسطيني أو على الطرف الإسرائيلي، فهدف هؤلاء وأولئك هو إفشال المساعي السلمية والإبقاء على مأزق الشرق الأوسط مفتوحاً على كل الاحتمالات لأغراض قد تكون مختلفة، لكنها تلتقي عند نقطة واحدة.

عندما انتخب الشعب الفلسطيني محمود عباس فإنه انتخبه وهو يعرف أن مهمته ستكون بمنزلة «خرط القتاد» وأن المنصب الذي سيحتله سيكون «تكليفاً» وليس «تشريفاً»، وأن أياماً صعبة تنتظره، وأن الاشتباك السلمي مع الإسرائيليين سيكون أصعب من الاشتباك العسكري معهم، وأن موقع الرئاسة بالنسبة إلى الفلسطينيين هو في حقيقة الأمر خندق متقدم لاستكمال مسيرة صعبة لم تقترب من نهايتها بعد.

لذلك فإنه ما كان يجب أن يُلوِّح محمود عباس بالاستقالة لا في المرة الأولى ولا في المرة الثانية، فالاستقالة في هذه الظروف وفي هذه المرحلة الدقيقة والحساسة، هي هروب من معركة المفاوضات التي هي أصعب وأقسى وأخطر من معركة السلاح، ثم إن الشعب الفلسطيني عندما انتخب «أبومازن» لهذا الموقع فإنه انتخبه ليس من أجل المراسم الرئاسية، وإنما لمواصلة هذه المعركة التي لن تنتهي ولا يمكن أن تنتهي ما لم يستعد هذا الشعب حقوقه ويُقِمْ دولته الفلسطينية المنشودة.

ربما أن القصد من التلويح باستقالة «أبو مازن» هدفه الضغط على الأميركيين ليضغطوا بدورهم على الإسرائيليين لضمان إنجاح مؤتمر الخريف المقبل وهذا من الممكن أن يكون أسلوباً صحيحاً ومجدياً لو أن قضية الشرق الأوسط ليست على كل هذا المستوى من التعقيد، ولو أنه ليس هناك من يتمنى مثل هذه الاستقالة حتى من بين الفلسطينيين أنفسهم.

إن محمود عباس يعرف أكثر من غيره أن كل ما جرى منذ الانتكاسة التي حلَّت بعملية السلام، قبل وفاة ياسر عرفات وبعد ذلك، كان هدفه سواء بالنسبة إلى الإسرائيليين أو بالنسبة إلى بعض الفلسطينيين وبعض الأميركيين وبعض العرب أيضاً، التذرع بعدم وجود الطرف الفلسطيني المفاوض والتنصل من المسيرة السلمية كلها والعودة بالأمور إلى نقطة الصفر والتخلص حتى من اتفاقيات أوسلو التي رغم كل ما يقال فيها، فإن اليمين الإسرائيلي اعتبرها كارثة ما بعدها كارثة ولجأ إلى التخلص من إسحق رابين ليتخلص منها.

ليس في مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته ولاسيما أن معركة المفاوضات محتدمة على هذا النحو، أن يأتي أي فلسطيني سواء كان صائب عريقات أو محمود عباس نفسه أو غيرهما على ذكر هذه الاستقالة لا من بعيد ولا من قريب، فهذه مناورة قصيرة النظر وهي «تكتيك» بائس سيعطي انطباعاً بأن الفلسطينيين ضعفاء وأنهم غير جادين وأنه لم يوجد من بينهم بعد القائد القادر على قيادتهم في معركة المواجهة السياسية التي هي أقسى وأصعب من المعركة العسكرية.

لا يجوز إعطاء أي انطباع، والوضع على ما هو عليه الآن، سواء للأميركيين أو للإسرائيليين وحتى للفلسطينيين والعرب بأن القيادة الفلسطينية خائفة ومهزوزة وضعيفة وان أحد خياراتها هو الانسحاب من المعركة وإدارة الظهر للصراع... فهذا في حقيقة الأمر جريمة لا تغتفر وعلى محمود عباس ألا يضيف اسمه إلى قائمة أسماء القادة الذين سبقوه والذين بسبب ترددهم أضاعوا فرصاً تاريخية ثبت بالأدلة القاطعة أنها لم تتوافر مرة أخرى، وهي بالتأكيد لن تتوافر مرة أخرى وعلى الإطلاق!!

* كاتب وسياسي أردني