المجتمعات... بين أعراض النمو ومحكّات التنمية

نشر في 26-04-2008
آخر تحديث 26-04-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ في المجتمعات التعدّديّة، تشكّل التنمية الإنسانيّة الملاذ الأوّل والأخير والشرط الشارط، لتجاوز مشكلات وإشكاليّات الصراعات السياسيّة أو المجتمعيّة أو العرقيّة وحتى الطائفية، ذلك أن المحك التنموي وضمنه الديموقراطية والمواطنة واعتماد العلمنة في مؤسسات الدولة- كما تؤكّده تجارب النمور الآسيويّة واليابان من قبلها والتجربة الهنديّة فيما بعد- أدى ويؤدّي عمليا إلى تجاوز أزمات ومآزق مثل تلك الصراعات على اختلافها، إذ يبدو أنّ الرّفاه الاقتصادي شكّل الدافع الأوّل لرافعة الرّفاه الاجتماعي، فيما شكّل الاثنان الدافع الأبرز لبروز روافع الاستقرار السياسي. أو هذا هو على الأقل ما تشهده حتى الآن معطيات الأنظمة السياسيّة على اختلافها في تلك المنطقة من العالم. فيما بلداننا ومجتمعاتنا لا تني تبحث عن مقدّمات ومقوّمات استنهاضها التنموي الشامل، بدل استمرارها في عيش تحجّرات ركودها واستنقاعها وسط محيط من الحركة الدائبة المتقدمة دوما إلى الأمام.

إنّ تحميل المجتمعات المسؤوليّة المباشرة عن الأزمات التي تشهدها، محاولة اعتباطيّة مكشوفة من لدن السلطات الساعية دوما، إلى الانسلال من مسؤوليتها عن تفاقم تلك الأزمات وإنكارها، مما يؤشّر إلى عدم توافر التوجّه الجاد والصادق للبحث عن الحلول الناجعة لها، بل ينطوي على محاولة مفضوحة للتنصّل من المسؤوليّة، وفي نفس الوقت محاولة للتغطية على من يتحمّل المسؤوليّة المباشرة عن تلك الأزمات؛ سواء أولئك الذين يوجدون في قلب السلطة (قمّة السلطة السياسيّة) أو أتباع لهم أو أقرباء، أو شركاء داخل المجتمع، وعلى حواف وهوامش الشرائح والفئات الأكثر التصاقا بشرائح الحكم الفعليّة.

ويشكّل استبعاد المجتمع من أيّ دور له في عمليات التنمية، استبعادا له ولأفراده الفاعلين من «جنان» تلك العمليات، تلك التي لم تعد كذلك، بل أمست مصنعا تصنّع فيه نار إنماء الطفيليّات والبيروقراطيّات السلطويّة، تلك التي تدّعي «الاستقلاليّة» أو تلك التابعة.

من هنا، فإنّ كفاية السياسة والسياسيّين؛ تتجلى وبوضوح في قيادة العمليّة التنمويّة، واستشراف مستقبلها، وذلك على العكس من حال الأجهزة البيروقراطيّة -على اختلافها- التي أثبتت فشلها في القيادة والإشراف، كما في الرّيادة والاستشراف. ذلك أنّها ليست معنيّة بالمستقبل، قدر ما تشدّها مصالحها الآنيّة للتعاطي مع الحاضر ومشكلاته بأساليب عتيقة، تنافي عبرها السياسة والإدارة السياسيّة، وهذا بالتحديد ما يقود إلى أنّ ما تشهده مجتمعاتنا، وعلى الدوام أو بشكل دوري: أزمات سياسيّة لها تداعيات اقتصاديّة سلبيّة، فيما قادت الأزمات الاقتصادية أو هي الآن، تقود إلى أزمات سياسيّة مقيمة، في ظلّ استعصاء مقيم؛ بامتناع إجراء الإصلاحات الضروريّة المطلوبة استراتيجيّا، وفي غياب أيّ محاسبة للمقصّرين أو المسؤولين من أصحاب السلطة.

إنّ غياب رؤية استراتيجيّة واضحة لتنمية مستدامة، مستقلّة، يعتّم على وجود تنمية من الأصل، فما يجري باسم التنمية، ليس أكثر من حالة نمو وإنماء، لجيوب المهيمنين على مفاصل السلطة الرئيسة، والشرائح الطبقيّة المتحالفة معها، ومع مصالحها الأشد خصوصيّة.

كما أنّ إساءة استخدام مقدرات وإمكانات الثروة البشريّة، أدّى إلى أن تمتنع «الدولة»، أو بالأحرى السلطة، عن قيادة مهمّة أو إطلاق تنمية بشريّة حقيقيّة، يقع في القلب منها: زيادة وتطوير فرص التعليم والتدريب والتأهيل، وزيادة المهارات والخبرات، وإنماء وتنمية مجتمع المعرفة وتطويره، كونه المجتمع المستقبلي الذي يشكّل البنية التحتيّة لعمليّة التنمية المستدامة الحقيقيّة، لا الافتراضيّة، على الصعيد الاستراتيجي.

على أنّ حرّية السوق وحرّية التجارة، لا يمكنها أن تستقيم كعمليّة تنمويّة في غياب حرية الفرد والحريّات السياسيّة والاجتماعيّة، بل إنها لا تستقيم كذلك في غياب الدولة، تلك التي تمارس صلاحيّاتها في ظلّ عقد سياسي واجتماعي ملزم، ونظام قانوني عادل، وسلطة قضائيّة نزيهة ومستقلّة، وإلاّ فإن سلطة بلا ضوابط قانونيّة وأخلاقيّة، لا يمكنها أن تقوم مقام الدولة، التي هي وحدها التي يمكن أن تشكّل الأداة الحافظة لحريّة السوق وحريّة التجارة، وبالضرورة لحريّة الفرد... والمجتمع.

لذا فإنّ المشاركة في التنمية الاقتصادية للمجتمع، حتّمت وتحتّم الفصل التام بين السلطة والتجارة، والقضاء على ذاك التداخل المضرّ بالتنمية؛ القائم بين شرائح سلطويّة معروفة من قبل المجتمع، وشرائح وفئات تجاريّة، تتزاوج مصالحها إلى حدّ الانصهار والانسجام التام، مما يفقد عملية التنمية الاقتصاديّة، أو المشاركين فيها، طالما هم يسعون إلى الهيمنة على السوق بهدف زيادة أرباحهم، أيّ قيمة عمليّة، بل إن ذلك يرهن المجتمع لعمليّة استغلال واسعة، لا سيّما أن انعدام السياسة، وإمكان تدخّلها في هذه الحالة، يُبقي المجتمع بلا مرجعيّة حمائيّة. ليس هذا فحسب بل يشجّع النفوس الضعيفة على الاستمرار في عمليّة الإضرار المتعمّد بالتنمية، وتحويلها إلى مجرّد قراءات تتحدّث عن أرقام عجفاء، كدليل على نموّ مفقود؛ يزعمون وجوده على الورق ليس إلاّ.

* كاتب فلسطيني

back to top