Ad

إننا الآن في زمن آخر... فتحت رايات الجمود والتشظي واللامبالاة، بعضنا يسعى مستبسلاً لإيقاظ الغافي ومواجهة التردي، وبعضنا يحفر باحثاً عن بائد ينتسب إليه متوهما أن خلع ثوب العروبة يعني الالتحاق بالآخرين المتقدمين وإزاحة التخلف والتردي، بالإضافة إلى فوضى لغوية تجتاح الشوارع... مفردات غريبة تنزرع وتنمو وتتوالد على ألسنة أبنائنا مشّكلةً لغة خاصة بهم.

في صباي كنت طالباً خائباً في النحو والصرف لا أعرف الفرق بين الأحوال والنعوت... وأتوقع العقاب كلما طلب مني أحد المدرسين إعراب عبارة ما. وكان أساتذة اللغة الأزهريون يحرصون على إخفائي أو إبعادي مع الخائبين من أمثالي كلما زار المدرسة أحد مفتشي اللغة العربية وقد كان هؤلاء المفتشون يمتحنوننا فقط في النحو والصرف ولا يتطرقون أبداً إلى مجالات وحقول اللغة الأخرى التي كنت بارعاً فيها.

ورغم هذه المعاناة ظللت عاشقاً للغة ومولعاً بالقراءة التي كانت في الخمسينيات والستينيات هي الوسيلة الوحيدة للمعرفة خاصة في القرى، قراءاتي لبعض كتب التراث كانت تشد أزري وتواسيني أحياناً وأنا أقرأ عن الأمراء والخلفاء الذين أرسلوا أبناءهم إلى البوادي لكي يعرفوا اللغة ولم يفكروا في إرسالهم إلى النحويين في البصرة أو الكوفة.

تكتسب اللغة أهميتها من عدد المتحدثين بها والساعين إلى تعلمها، وتحتل اللغة العربية المركز الرابع من حيث الأهمية عالمياً بعد الصينية والإسبانية والإنكليزية رغم أحوالنا التي لا تسر أحداً. ولأن اللغة هي راية الانتماء والولاء ومستودع الفكر والابداع والتراث والتواصل تهتم الأمم بتجديد وتطوير لغتها وتبسيط قواعدها ومساندة الأجانب الساعين إلى تعلمها.

ولغتنا كانت، ومازالت، بحاجة إلى الاهتمام بها والسهرعليها، خصوصا أنها عانت على مدى قرون الإهمال والجمود والتراجع في العصر المملوكي وبعد الاحتلال العثماني والاوروبي والضغوط التي مارستها لغات المحتلين على لغتنا، التي احتمت بالقرآن الكريم ولاذت بالجامعات الدينية حتى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات الإصلاح والنهوض التي أرادها الإحيائيون والمهجريون.

ولم يكن الاهتمام بتجديد اللغة في ذلك الوقت منفصلاً عن نهوض الأمة وسعيها إلى التحرر والتقدم والاندماج في العالم الحديث. وأظننا نتذكر دعاة الاصلاح (الأفغاني، الكواكبي، محمد عبده، قاسم أمين) وجهودهم في هذا المجال. وشعراء الإحياء وفي مقدمتهم البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، كانوا بسبب الاصطدام بالآخر الأوروبي المستعمر يستلهمون الماضي ويستعينون بزخمه وتألقه لاستعادة لغة الأجداد وإحيائها، بينما كان شعراء المهجر وفي مقدمهم جبران وميخائيل نعيمة وإيليا ابو ماضي وغيرهم، يرفعون راية الإبداع والابتكار منطلقين من تجاربهم الحياتية والثقافية في المهاجر البعيدة ويسعون بالتالي إلى تحرير اللغة العربية من سطوة القديم وشحنها بالجديد والعصري وتبسيط قواعدها وتخليصها من التعقيد.

والفريقان رغم عمق الاختلاف بينهما نجحا في انتشال اللغة من الركاكة والعشوائية والابتذال وسماجة السجع والبلاغة المفتعلة، وأعادا إليها بريقها وحيويتها. وقد دلل طه حسين على ذلك الإنجاز عندما ضمن كتابه «حديث الأربعاء» نموذجين للكتابة ينتمي أحدهما إلى منتصف القرن التاسع عشر والآخر إلى أوائل القرن العشرين.

قبل قرن كان الإصلاح والتقدم واللحاق بالعالم الحديث والاندماج فيه رايات يستظل بها الأجداد وغايات يكدون من أجلها، وانعكس ذلك على اللغة التي تطورت لتواكب هذه الصحوة.

لكننا الآن في زمن آخر... فتحت رايات الجمود والتشظي واللامبالاة بعضنا يسعى مستبسلاً لإيقاظ الغافي ومواجهة التردي، وبعضنا يحفر باحثاً عن بائد ينتسب إليه متوهما أن خلع ثوب العروبة يعني الالتحاق بالآخرين المتقدمين وإزاحة التخلف والتردي، بالإضافة إلى فوضى لغوية تجتاح الشوارع... مفردات غريبة تنزرع وتنمو وتتوالد على ألسنة أبنائنا مشّكلةً لغة خاصة بهم عبارات تتكون من مفردات عربية وإنكليزية؛ ومحال تجارية يستهين أصحابها بكل شيء وتحمل أسماء غريبة ومستفزة... «إسلامكو للمواد الغذائية» و«رمضانكو لملابس المحجبات»، (...).

وهذه الفوضى تكرسها الأفلام، والأغاني الشبابية، والمسلسلات والمسرح التجاري، وبعض الصحف والفضائيات، وسياسات التعليم التي استهانت بركائز الولاء والهوية ودفعت باللغة الإنكليزية إلى مركز الصدارة حتى في جامعاتنا الوطنية العتيدة التي راحت تنافس الجامعات الخاصة والأجنبية وتدرس للطلاب الأثرياء والقادرين باللغة الإنكليزية مكرسة بالإضافة إلى الفرز الطبقي نوعاً من الأفضلية للطلاب الأثرياء على زملائهم الذين يدرسون بالعربية هل يحق لنا عندما نصر على إهانة لغتنا وأنفسنا أن نطالب الآخرين باحترامنا؟

* كاتب وشاعر مصري