أبو جعفر المنصور والخلافة الفولاذية
كان الخليفة الثاني للخلافة العباسية أبوجعفر المنصور، من أهم الشخصيات التي ظهرت في التاريخ العباسي، بل يعده المؤرخون المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، ولد الخليفة المنصور عام 95هـ في قرية الحميمة بالشام، تعلم على يد كبار علماء بن هاشم كان ماهراً فصيحاً وذكياً، تولى المنصور الخلافة بعد وفاة أخيه العباس من 754 حتى وفاته في 775م، بعد تولي المنصور الحكم كان همه الأكبر هو تقوية الخلافة العباسية في ظل الأخطاء التي تحيط بها من كل جانب، وكان المنصور يطمع في أن يجعل الخلافة العباسية خلافة فولاذية يصعب اختراقها، ولتعزيز مواقفه وتثبيت قواعد حكمه، رغب الخليفة المنصور في بناء عاصمة جديدة لدولته بعيدة عن المدن التي يكثر فيها الخروج على الخلافة كالكوفة والبصرة، فاختار «بغداد» على شاطئ دجلة ووضع أول حجر للمدينة (145هـ 762م) واستخدم عدداً من كبار المهندسين للإشراف على بنائها، وجلب إليها أعدادا هائلة من البنّائين والصناع، وفرغوا من العمل منها في عام (149هـ 766م) وانتقل إليها الخليفة وحاشيته وأصبحت بغداد منذ ذلك الحين عاصمة للدولة العباسية وأطلق عليها مدينة السلام.
لم يكتف المنصور بتأسيس المدينة بل عمل على توسيعها عام 768م بإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي سماها الرصافة، وجعلها مقراً لابنه وولي عهده «المهدي» وشيد لها سوراً وخندقاً ومسجداً ومقراً، أيضاً من الأعمال الجليلة التي تذكر للمنصور عنايته بالعلم ونشر العلوم ورعايته للعلماء وقيامه بإنشاء «بيت الحكمة» في قصر الخلافة ببغداد وكان يشرف عليها بنفسه، وكان مركزاً لإشعاع العلم والنور وترجمت فيه آلاف المصنفات والكتب من كل لغات الدنيا إلى اللغة العربية، وقد أرسل المنصور إلى ملك الروم يطلب منه بعض كتب اليونان فبعث إليه بكتب في الطب والهندسة والحساب، كل هذه الأعمال تعكس شخصية الخليفة المنصور البارع في التخطيط والمتحمس إلى العمل والإنجاز، لم يتخذ المنصور من منصبه وسيلة للعيش المرفه والانغماس في اللهو ومباهج السلطة، بل استأثر بمعظم وقته لتأسيس وبناء الخلافة العباسية وبناء حلب يستمر قرونا عديدة، أيضاً استدعى هذا الأمر أن يعرف المنصور قيمة المال وحرمته فكان حريصاً على إنفاقه في ما ينفع ويعود بالنتائج الطيبة عليه وعلى الناس، وكان هذا هو منهج المنصور الذي سار عليه إلى أن تُوفي في 6 ذي الحجة 158هـ.