إذا قسمنا الإيديولوجيات الست إلى إيديولوجيات هوية، هي القومية والإسلامية، وإيديولوجيات عمل هي الشيوعية والديموقراطية والليبرالية والعلمانية، بدا واضحاً أن إيديولوجيات الهوية أشد انشغالاً بالجيوسياسي من إيديولوجيات العمل، ولعل الطائفية، وهي إيديولوجية هوية أيضاً، شريكة في الانشغال بالعامل نفسه.تتفاوت حساسية إيديولوجيات السوريين حيال الشاغل الجيوسياسي الذي صعد في سنوات ما بعد 11 سبتمبر، خصوصاً بعد احتلال العراق، ولا يبدو مُقْدِماً على خمود وشيك. والإيديولوجية التي تكاد تكون جيوسياسية فحسب هي القومية العربية، بحكم نشأتها وتطلعاتها، فهي منشغلة دوماً بالعلاقات الإقليمية والدولية، والولايات المتحدة وإسرائيل، أوروبا وروسيا، وتركيا وإيران، والدول العربية المقربة من هذا المحور الدولي أو ذاك، حاضرة دوماً وبكثافة في تفكير القوميين العرب.
على كل حال القومي جيوسياسي في كل مكان وبالتعريف ينطبق كذلك على القومي الكردي والقومي السوري أيضاً، ومن المتوقع أن تضمر الشواغل الاجتماعية والسياسية الداخلية عند القوميين الخلّص أو تلحق بانشغالهم الجيوسياسي.
في المقابل تُظهر كل من الإسلامية والشيوعية والديموقراطية والليبرالية والعلمانية انشغالاً أقل بالجيوسياسي، فالإسلامية، وهي نزعة قومية دينية في الواقع، تفكر بالجيوسياسي بلغة الثقافة والدين لا بلغة المصالح والمحاور وموازين القوى، بلغة الأمة الإسلامية لا بلغة الدول والكتل السياسية. ويكاد الجيوسياسي يرتدّ عندها إلى الجيوثقافي، وحيال بُنى سياسية عالمية متمحورة حول الدولة، وتتراوح مواقف الإسلاميين بين الصدور عن تصور مثالي تخلص له منظمة «القاعدة» وما قاربها، وتصور براغماتي أكثر تنبهاً لوقائع الدولة يمارسه «الإخوان المسلمون»، لكن ليس له ملامح واضحة.
وكانت الشيوعية التاريخية متنبهة جيداً للجيوسياسي، وذلك بسبب بنيتها كحركة عالمية ونظريتها عن الإمبريالية وذاكرتها الموروثة من زمن الحرب الباردة وصراعاتها واستقطاباتها، وبعد انتهاء الحرب الباردة بهزيمة المعسكر الشيوعي يظهر الشيوعيون الخلص في سورية قرباً من القوميين العرب، يفوق ما أبداه أسلافهم في مرحلة ما بين 1945 و1990.
فالديموقراطية في الأصل فكرة منشغلة ببناء الدولة والحياة السياسية حول مبدأ السيادة الشعبية وتوسيع وظائف الدولة الاجتماعية، فلا يقع الشاغل الجيوسياسي ضمن نطاق اهتماماتها، لكن صعود الجيوسياسي سيدفع الإيديولوجيات الأكثر استعداداً إلى الصدارة بحكم تكوينها «الفطري» لاستيعابه، لاسيما القومية. أما قضية الديموقراطية فستتراجع كما يظهر من تطورات ما بعد احتلال العراق في المشرق العربي.
والإيديولوجية التي يقع الجيوسياسي على النقطة العمياء في عينها في سورية والبلاد العربية هي الليبرالية، فإن انشغالها بالفرد وانحيازها لاقتصاد السوق وانجذابها الثقافي للغرب في زمن متسم بصعود الجيوسياسي والقومي، وبأولوية الدولة، يخفض من مرتبتها، إن لم يطعن في وطنيتها.
والعلمانية كذلك تفتقر إلى حاسة جيوسياسية، فهي مشدودة الانتباه إلى دور الدين في الحياة العامة، لا تكاد ترى غيره، على أن تأثير صعود الجيوسياسي متناقض معها، فمن جهة يتراجع حضورها مثل غيرها بسبب صعود القومي والدولة، لكن من جهة ثانية، ألا يقترن صعود القومي والدولة بإضعاف الديني، وبالتالي بتقدم العلمنة، وليس بالضرورة العلمانية؟ سندقق في ذلك أدناه.
على أنه يتعين التمييز بين الإيديولوجية والسياسة في جميع الحالات، فالعامل الجيوسياسي يقع خارج النواة الدلالية الأساسية لكل الإيديولوجيات المذكورة، عدا القومية، لكن الإسلامية والشيوعية، وبدرجة أقل الديموقراطية، طوّرت اهتماماً جيوسياسياً، من مدخل السياسة والتاريخ، وإن التمييز بين دار الإسلام والسلام ودار الكفر والحرب، أو نظرية الفطساطين لأسامة بن لادن، هي وليدة السياسة والتاريخ. وبقدر ما أن الإسلام ولد في السياسة، ومن تجربته المكوّنة تطبّع بالسياسة والصراع السياسي، فإن الجيوسياسي ليس بعيداً عن «طبعه» أو استعداده، وإن لم يكن من مقتضيات الإيمان الإسلامي، بيد أن المذهب الجيوسياسي الإسلامي غير صالح لصوغ سياسات مثمرة في عالم اليوم، وإنه ينساق نحو الإرهاب بقدر ما يكون مخلصاً لنفسه، ولا يستطيع تجنب الإرهاب من دون تعديل جذري في نظرته إلى العالم.
والشيوعية في الأصل مذهب اجتماعي عابر للأمم، وانشغالها التحليلي والأخلاقي منجذب إلى الطبقات لا إلى الأمم والدول، لكن السياسة الشيوعية كما مورست بعد الثورة البلشفية في روسيا طوّرت حاسة جيوسياسة قوية لأنها تشكلت في معسكر ذات يوم، وانساقت إلى التمييز بين معسكر الاشتراكية، أو دولتها الوحيدة لبعض الوقت، والمعسكر الرأسمالي، وربما انضافت إلى اللوحة الدولة المستعمَرة أو الدول المتحررة حديثاً، التي أفسح لتطورها مجال خاص لبعض الوقت في نظرية المادية التاريخية: التطور اللارأسمالي.
وعلى السياسة الديموقراطية أن تستوعب على مستوى التحليل وعلى مستوى العمل تغيرات الجيوسياسي كي تتمكن من الرد عليها، فهل تستطيع فعل ذلك من دون التفريط بانشغالها بتأميم الدولة وضبط سلطاتها؟ هذا ما على الديموقراطيين أن يجدوا حلولاً مبتكرة له.
وهل ينطبق ذلك على الليبرالية أيضاً؟ فهل عليها التسلح وإعلان النفير العام بدورها؟ قطعاً لا. لكنها مدعوة إلى إدراك أن صعود الجيوسياسي يخفّض من رتبتها ويقلّص القاعدة الاجتماعية والمعنوية لدعاواها، لذلك لا تستطيع سياسة ليبرالية ذكية أن تهمل هذا العامل، والسؤال المهم ، بل المصيري، في السياق الثقافي العربي والسياق الجيوسياسي الراهن هو: هل يمكن تصور ليبرالية عربية ناقدة للغرب ومعارضة له سياسياً وجيوسياسياً؟ وهل هناك فرصة للبرلة ثقافية وقانونية واجتماعية واقتصادية بينما يصعد الشاغل الجيوسياسي بفعل السياسات الأميركية، القومية والإمبريالية؟
كذلك ليس في وسع سياسة علمانية ناجعة الغفلة عن العامل الجيوسياسي، على المستوى التحليلي على الأقل، فالقومي يمتزج لدينا، في موجة صعوده الراهنة على الأقل، بالديني، وهذا خلاف ما يتوقع من ارتباطه بقوة الدولة وضعف الدين، وهذا أمر لا يستطيع العلمانيون تجاهله إن شاؤوا أن يكون عملهم مثمراً، وأن تتجاوز الفكرة العلمانية كونها ميثاق توحيد عصبة ضيقة تستغني بتماسكها الذاتي عن الطموح إلى الهيمنة الوطنية، فالقومي لدينا اليوم ضد العلمنة والعلمانية معاً، وضد الغرب كذلك، الغرب الثقافي كما الغرب السياسي.
فإذا قسمنا الإيديولوجيات الست المذكورة إلى إيديولوجيات هوية، هي القومية والإسلامية، وإيديولوجيات عمل هي الشيوعية والديموقراطية والليبرالية والعلمانية، بدا واضحاً أن إيديولوجيات الهوية أشد انشغالا بالجيوسياسي من إيديولوجيات العمل، ولعل الطائفية، وهي إيديولوجية هوية أيضا، شريكة في الانشغال بالعامل نفسه، على الأقل لأن الطوائف عنصر في مركب إقليمي ودولي، تتوزع ضمنه الدول الخارجية إلى حلفاء للطوائف أو أعداء.
بيد أن انشغال إيديولوجيات الهوية بالجيوسياسي انشغال «هووي» أو هوياتي هو نفسه، أعني أنه موجه نحو تدعيم سياسات الهوية وثقافتها وسيكولوجيتها، مزيج من الخوف من الغريب والتخوين والاستبداد، والنزعة المحلية الضيقة. «الممانعة»، باختصار.
بالمقابل، إما أن تفسح إيديولوجيات العمل نصيباً للجيوسياسي في اهتمامها، فتخسر شيئاً من شخصيتها و«أصالتها»، أو أن تتجاهله فيتراجع تأثيرها، هذه هي المعضلة التي يواجهها الناشطون العامون في «الشرق الأوسط» العربي، حيث الجيوسياسي كناية عن السيطرة الغربية، التي تثير في مجتمعات المنطقة وثقافتها ارتكاسات قومية ودينية سلبية حيال الحضارة الحديثة، وليس فقط حيال السيطرة الأميركية.
أين المخرج؟ من يستطيع تقديم الجواب النظري والعملي عن هذا السؤال هو من ستدين له الهيمنة في بلداننا، وينبسط له المستقبل.
* كاتب سوري