لو كان مارك توين حياً اليوم، لربما غير مقولته الشهيرة لتكون: «هناك فقط قوتان تحملان النور إلى هذا العالم بجميع أركانه؛ الشمس في السماوات ووكالات الأنباء على الأرض».
فإذا كانت الصحافة المطبوعة هي الثبت المدوّن ذو الرسوخ والاستدامة في واقعنا الاجتماعي، فإن وكالات الأنباء هي نبض الزمن وخلجاته لحظة بلحظة، هي دفتر أحوالنا اليومي، وصورة الحاضر بزاوياه وظلاله؛ إذ تُلتقط وتُعرض في الآن نفسه.فثمة ثلاث وكالات أنباء في هذا العالم- «رويترز»، و«الفرنسية» (أ ف ب)، و«الأسوشييتد برس» (أ ب)- تطل علينا كل صباح عبر وسائل الإعلام كافة، لتزودنا بنحو %70 من الأخبار الخارجية التي نقرأها ونسمعها ونشاهدها في الصحف والإذاعات والتلفزيونات والمواقع الإلكترونية.ووكالتا أنباء اثنتان فقط، هما «رويترز» و«الأسوشييتد برس» (أ ب)، تصوران العالم بعدستيهما، وتزودانه بنحو %60 من كل الصور التي تعرضها المحطات التلفزيونية بمصاحبة الأخبار الخارجية.عاش العالم طويلاً، عقب الحرب العالمية الثانية، وخلال فترة الحرب الباردة، ما عُرف بزمن «الخمس الكبار» Big Five؛ والمقصود كان وكالات «رويترز»، و«الفرنسية»، و«الأسوشييتد برس»، و«اليونايتد برس إنترناشيونال»، و«تاس» السوفييتية. ثم ما لبث أن تقلص العدد إلى «الأربع الكبار»، بعد اندحار «تاس» مع انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، والآن نعيش مع «الثلاث الكبار»؛ إذ تراجعت «اليونايتد برس إنترناشيونال» تحت وطأة مشكلات تمويلية وإدارية.وكما يحدث في «لعبة الأمم»؛ صعود الإمبراطوريات وهبوطها، يحدث في الإعلام. بدأت «الأسوشييتد برس» برأس مال لا يتعدى 20 ألف دولار، وبرغبة في تفادي مصروفات البرق عبر الأطلسي، ونقل صورة «أفضل وأكثر واقعية عما يحدث غرب الأطلسي للأوروبيين». والآن هي أكبر مؤسسة إعلامية في العالم، بعدد مكاتب يبلغ 242 مكتباً، و3700 موظف ما بين محرر ومراسل وإداري، ومشتركين محليين يبلغ عددهم 1700 صحيفة أميركية يومية وأسبوعية، و5000 راديو وتلفزيون. وتقدم «أ ب» خدماتها في 121 دولة، بخمس لغات؛ هي: الإنكليزية والألمانية والهولندية والفرنسية والإسبانية، كما تترجم خدماتها لعشرات اللغات الأخرى حول العالم؛ إذ تبث حوالي 20 مليون كلمة ونحو ألف صورة فوتوغرافية يومياً.أما «رويترز»، فقد زادت الخدمات التي تقدمها إلى 138 خدمة، بـ 16 لغة، كما زاد عدد المستفيدين من خدماتها على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) إلى أكثر من 60 مليون مستخدم شهرياً.والآن ثمة لاعبون جدد يسعون إلى المشاركة في الصدارة؛ إذ يرشح كثير من علماء الإعلام وباحثيه وكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) لاحتلال مكانة بين الكبار قريباً؛ فقد طورت تلك الوكالة مفهومها لدورها من وكالة أنباء إقليمية، إلى شبه عالمية، إلى عالمية في غضون عشر سنوات. ويبدو أنها كسبت زخماً كبيراً منذ اتحاد الألمانيتين (ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية)، على خلفية سقوط جدار برلين، وانهيار القطب الشيوعي، في ختام الحرب الباردة.ووفقاً للمفهوم الجديد لوكالة الأنباء، أخذت «د ب أ» في تطوير نفسها، وأصبحت اليوم تمتلك شركات بالكامل، وتسهم في ملكية شركات أخرى، بعضها ذو طابع اقتصادي وتقني بحت، وتوسع في خدماتها الرامية إلى استهداف الجمهور العادي.فقد تغير المفهوم القديم لوكالة الأنباء كـ «جهاز لجمع الأخبار وتوزيعها»، وتحولت هذه الوكالات إلى منظمات إعلامية – اقتصادية متكاملة، تستفيد من أعلى تجليات التقنية في جمع الأنباء حول العالم وتجهيزها وتطويرها وتصنيفها وتوزيعها بلغات عدة.كما باتت تقوم بإضافة المعلومات والتحليل والرأي والصور والرسوم البيانية إلى الأخبار والقصص التي توزعها. وتنشئ وتساهم في إنشاء شركات ذات طابع اقتصادي ومعلوماتي وإعلامي، كما تنشئ وسائل إعلام أخرى، وتطور مؤشرات اقتصادية لقياس أداء أسواق المال، وتجري استطلاعات رأي لقياس توجهات سياسية.ووكالات الأنباء الكبرى اليوم لا تقف عند حدود، بل تجتهد لتقديم خدمات تنشد التكامل، وتغطي مساحات جديدة، وتلبي الحاجات الناشئة عبر منافسة ضارية لنظيراتها. وفيما تأخذ هذه المؤسسات العملاقة أنظار العالم وتخلب ألبابه، تروج لمفاهيمها عن الأشياء والجماعات والدول والأمم، وتطلق صفات وتنسب أدواراً، وتؤثر في السياسات والأسواق والثقافات.وعبر استيعابها وسرعتها في التفاعل مع ثورة المعلومات وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) ووسائل الإعلام الأخرى و«الملتميديا» خصوصاً، بات كل العالم بفئاته وأفراده العاديين جمهوراً مستهدفاً لتلك الوكالات أو بعض خدماتها الآخذة في التزايد.لقد قطعنا، في السنوات العشر الأخيرة خصوصاً، أشواطاً طويلة في سباقات الإعلام، ونلنا حظوظاً متفاوتة من نجاحات يجب ألا نبخسها حقها، لكننا فعلنا هذا في «صناعات إعلامية خفيفة»: محطة فضائية، أو صحيفة، أو موقع إلكتروني. الصناعة الثقيلة في عالم الإعلام هي صناعة وكالات الأنباء، وإلى أن نمتلك وكالة أنباء عربية كبرى، تعمل وفق المعايير الاحترافية، وتنافس بقوة على الصعيد الدولي، فسنظل على هامش المنافسة العالمية الحقيقية في هذا المجال الذي تتزايد أهميته يوماً بعد يوم. كاتب مصري
مقالات
العرب على هامش المنافسة الإعلامية العالمية
28-07-2007