القوى السياسية تتوه في أدق التفاصيل اليومية وتنشغل وتشغل الناس معها فى أمور ليس ذات أهمية إستراتيجية، مما يفقدها، أي القوى السياسية، المصداقية والجدية في تبني القضايا العامة.يلاحظ المتابع للشأن العام أن «التوهان» في تفاصيل التفاصيل يكاد يكون هو الشغل الشاغل لجميع أطراف العملية السياسية. وإن كان اللوم يقع على الحكومة لانشغالها بالأمور الهامشية على حساب الرؤية الاستراتيجية، وذلك لأنها حسب نص المادة (123) من الدستور؛ هي التي تهيمن على مصالح الدولة وترسم السياسات العامة، فإن ذلك ليس علة الحكومة وحدها، حيث تشاركها في هذا المرض القوى السياسية التي يتضح عدم قدرتها على توعية الناس وقيادتهم باتجاه مشروع تنموي جديد ينتشل البلد من حالة الركود ويعيد للناس الثقة في مستقبلهم ومستقبل أجيالهم المقبلة. فالقوى السياسية تتوه في أدق التفاصيل اليومية وتنشغل وتشغل الناس معها فى أمور ليس ذات أهمية استراتيجية، مما يفقدها، أي القوى السياسية، المصداقية والجدية في تبني القضايا العامة لأن العمل التكتيكي والمصلحي- الانتخابي يستهلكانها على حساب الاستراتيجية. وقد يُعزى هذا لعجز هذه القوى، كما هو حال الحكومة، عن تبنى قضايا تنموية استراتيجية.
وكمثال على ذلك نأخذ القضايا الثلاث الأخيرة التي سيطرت على الشأن العام وكانت حديث الناس والصحف والمنتديات الإلكترونية وهي:
القضية الأولى، من حديث التسلسل الزمني، هي قضية إسقاط القروض التي اختلط فيها الحابل بالنابل واستحوذت على ما عداها من قضايا تنموية مستقبلية وشغلت الجميع لمدة معتبرة من الزمن، ثم انتهت لما انتهت إليه من دون حلول واضحة حتى الآن لمشكلة المتعثرين الفعليين الذين لربما ذهبوا ضحية للمزايدات الانتخابية والسياسية.
أما القضية الثانية، فهي الاستجواب الذي قدم لوزيرة التربية والتعليم العالي الذي كان من المفترض أن يتطرق للسياسة التعليمية والخطط والبرامج التي تقوم أو تنوي الحكومة القيام بها لتطوير التعليم الذي يعتبر الركيزة الأساسية للتنمية. وعندما نتحدث عن خطط وبرامج فإننا يجب ألا نتوقف كثيراً عند أمور تفصيلية يومية حول هذه الجزئية أو تلك مما يحصل يومياً في مدارس العالم كلها. إلا أن الأمور قد اختلطت في الاستجواب الأخير، وضاعت أو «ضُيّعت» فيه قضايا التعليم الرئيسية، ومن ثم تمحور جدل القوى السياسية الذي رافق تقديمه وحصل أثناء مناقشته حول قضايا تفصيلية لا تتعلق بالاستراتيجية العامة للتعليم التي، للأسف الشديد، لم تكن ضمن أهداف الاستجواب. وكما سنرى، فإنه وبغض النظر عن النتائج السياسية التي ينتهي إليها الاستجواب، فإن تطوير التعليم لن يكون ضمن هذه النتائج. لذلك نلاحظ أنه ومنذ خمسة عشر عاماً فقد تم استجواب أربعة وزراء للتربية والتعليم العالي وكانت النية تتجه لاستجواب اثنين آخرين لولا حل المجلس، ومع ذلك لا يزال وضع التعليم متردياً.
وبالنسبة للقضية الأخيرة، الذى افتتحنا بها السنة الجديدة، فهي موضوع التجنيس، وهو الموضوع الذي تعدى كونه موضوعاً خاصاً يخضع لشروط وضوابط معينة كما هو الحال فى بلدان العالم كلها، ليصبح مجالاً للمزايدات الانتخابية الانتهازية وللتجاذبات السياسية الضيقة التي سيذهب ضحية لها سمعة ومصير أناس أبرياء يستحقون الجنسية وليس لهم ناقة ولا جمل بكل هذه «اللخبطة» السياسية.
وهكذا نلاحظ أن ما تطرحه اغلبية القوى السياسية على الرأي العام من وجهات نظر حول القضايا والمشاكل العامة لا تتعدى، في الكثير من الأوقات، أن تكون وجهات نظر تفصيلية سطحية أقرب «لسوالف الديوانية» منها للبرامج والرؤى السياسية الاستراتيجية.