Ad

كانت طشقند إحدى أبرز المحطات الرئيسية على طريق الحرير القديم الذي كان يربط الصين بوسط آسيا ومنه إلى غربها ثم إلى أوروبا. وكان لطريق الحرير تأثير كبير على ازدهار كثير من الحضارات القديمة وتفاعلها كالحضارة المصرية والصينية والهندية والرومانية.

طشقند هى اليوم عاصمة دولة أوزبكستان، ورغم أنها لم تعرف كمدينة لها أدوار تاريخية في آسيا الوسطى إلا بدءًا من القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) فإنها اليوم تبدو زاخرة بالعمائر الإسلامية القديمة.

وقبل أن يشتهر أمر طشقند في عهد دولة الأوزبك الشيبانيين، كانت مجرد مدينة صغيرة تسمى «بنكث» يتحدث عنها الجغرافيون العرب بوصفها أهم مدن إقليم الشاش أو الجاج، وما لبث اسم الإقليم أن غلب على المدينة منذ القرن الرابع الهجري (10م) على أقل تقدير.

ويوجد دينار ذهبي نادر ضرب في عام 308هـ (920 م) وهو يحمل اسم دار ضرب الشاش (بسم الله ضرب هذا الدينار بالشاش سنة ثمان وثلاثمئة) وقد سك باسم نصر بن حمد الساماني أحد ملوك الدولة السامانية التي حكمت أواسط آسيا، ويحمل هذا الدينار أيضا اسم الخليفة العباسى المقتدر بالله، إشارة إلى اعتراف الدولة السامانية بتبعيتها (الدينية على الأقل) لخلافة العباسيين.

والشاش كما يعرفها العرب الأقدمون من ضمن بلاد الصفد، وهى الأقاليم المحيطة بالمدينة التاريخية الشهيرة سمرقند، وإن تميزت الشاش بأنها في أرض مستوية لا جبل فيها ولا أرض مرتفعة، وبساتينها ومتنزهاتها كثيرة، ويضيف الحميري في كتابه «الروض المعطار في خبر الأقطار» أنها من الثغور التي في ناحية الترك ولأهلها سلطة ومنعة، وهو ما يعني أنها كانت من جبهات القتال الإسلامية ضد الروس المسيحيين.

وفى ظل ازدهار كل من بخارى وسمرقند ولا سيما في عهد التيموريين، لم يقدر لطشقند أن تجتذب اهتمام رعاة الفن المعماري، ولكن القرن العاشر الهجري (16م) حمل معه مفاجآت غير سارة للمدينتين الكبيرتين، فمن ناحية أدى الاقتتال بين العناصر التركية والمغولية إلى تمزيق شمل أواسط آسيا ونشر الخراب والدمار في كثير من مدنها، ومن ناحية أخرى طرأت تغييرات جذرية على اقتصادات سمرقند وبخارى والقائمة على ازدهار تجارة العابر (الترانزيت) في الطريق البري بين جوف آسيا وشرق أوروبا، إذ تم اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح الذى تحولت إليه أغلب تجارات الشرق الآسيوي لتصل إلى أوروبا مباشرة من دون حاجة إلى المرور بالشرق الإسلامي.

وفي هذه الحقبة نجح خان الأوزبك (شيباني) في توحيد أغلب مقاطعات آسيا الوسطى، ولم يحل استمرار بخارى عاصمة لدولة الأوزبك دون استمرار طشقند في طريق الازدهار الذي عرفته منذ القرن التاسع الهجري (15م)، وأخذت في الإفاقة من الدمار الواسع الذي نزل بها إبان الحروب المغولية ومن عمائر الأوزبك الشيبانيين بطشقند مدرسة «كوكلتاش» وهى من أكبر المدارس في آسيا الوسطى، وقد صممت قبابها بواسطة أقواس مصهورة من المرمر، وإن تعرضت للانهيار نتيجة للسرعة الكبيرة التي جرى بها إنجاز بناء المدرسة في منتصف القرن العاشر الهجري (16 للميلاد) وهو ما عرضها للتأثر بسهولة بالزلازل التي ضربت طشقند عدة مرات.

ولهذه المدرسة مدخل مهيب بوسطه عقد مدبب مفتوح حليت كوشتيه بالفسيفساء الخزفية المتعددة الألوان والمؤلفة من زخارف نجمية الشكل، وعلى جانبي العقد الكبير منطقتان زخرفيتان متماثلتان تتألف كل واحدة منهما من ثلاثة عقود مدببة صغيرة تفصل فيما بينها تربيعتان من الفسيفساء الخزفية تحوي كتابات بالخط الكوفي المربع سجلت بها شهادة التوحيد واسم الرسول (صلى الله عليه وسلم).

وتفضي هذه الكتلة المعمارية الضخمة إلى عقد المدخل الذي يعلوه عقد آخر مماثل، وكلاهما مزين بتربيعات القاشاناي الزرقاء اللون، ويتوسط عقد المدخل واجهة رائعة ودقيقة التوازن مؤلفة من عقود متماثلة صفت على طابقين لتشابه بذلك الطراز المعماري لمدارس بخارى الشهيرة.

ومن المباني التاريخية الشهيرة في طشقند ذلك الضريح المعروف باسم ضريح (زين الدين بابا)، وقد شيد في القرن التاسع الهجري (15 للميلاد) ثم أعيد بناؤه بالكامل في القرن التاسع عشر. ويعكس تصميمه مدى استمساك أهل طشقند بتراث آسيا الوسطى المعماري بعد سقوط مدينتهم في أيدي القوات الروسية الغازية.

فالواجهة تعد إلى حد كبير مجرد محاكاة على قياس لواجهة مدرسة كوكلتاش، وإن اقتصرت هنا على كتلة الدخول التي زخرفت برص مداميك الأجر على هيئة معينات متماسة، وازدانت واجهات البناء الجانبية بعقود مدببة تنتهي في الأركان بما يشبه المآذن الأسطوانية الصغيرة، وقد كان ذلك من تقاليد العمائر الإسلامية في سمرقند وبخارى، أما القبة فهى تبدو غريبة الطراز، فنصفها الأسفل سمرقندي الطابع حيث ارتفعت رقبة القبة بصورة تلفت الانتباه، في حين اتخذت خوذة القبة هيئة أقل تدببا وارتفاعا عما كنا نراه في القباب السمرقندية المعروفة، والتي يشبهها البعض ببيضة الدجاج أو البصلة.

ولعل هذه المحاولة للإبقاء على الروح الإسلامية التي عرفتها طشقند في أواخر العهود الإسلامية بالتركستان تعكس مدى المقاومة التي أبدتها العاصمة الأوزبكية للحفاظ على الخصوصية الحضارية للبلاد في مواجهة الهيمنة الروسية منذ فشل آخر هجوم قاده أمير بخارى (مظفر الدين) في عام 1866م لاسترداد القسم الشمالي من طشقند.

ففي عام 1917م وبعد نجاح الثورة البلشفية عقد أول مؤتمر إسلامي كبير للتركستان في طشقند ليطالب بالاستقلال الذاتي وإطلاق حرياتهم الدينية، وحق الأهالي في سن قوانينهم الخاصة بهم بوصفهم مسلمين وفقا لتعاليم الدين الحنيف ورغم نجاح العناصر الماركسية في إعاقة تنفيذ إعلان طشقند بصورة كاملة وفرضها سياسة «الترويس» على أوزبكستان فإن ذلك لم يحل دون تطور طشقند واستمرار دورها كمركز إسلامي مهم، ويكفي أنها واصلت جهود المسلمين لاستعادة المصحف المنسوب إلى عهد الخليفة عثمان بن عفان، والذى اشتراه أحد جنرالات الجيش الروسي من سمرقند بثمن بخس وأودعه في المكتبة العامة ببطرسبورغ، فبعد فشل مجموعة من الجنود المسلمين في اقتحام المكتبة أثناء ثورة فبراير 1917م تم نقل المصحف بعد ثورة أكتوبر من نفس العام إلى مدينة «أوفا» عاصمة بشكيريا (منطقة إسلامية في روسيا) وظل بها خمس سنوات، حتى استجاب السوفييت لطلب طشقند بنقل المصحف إليها ليعود في قطار خاص عام 1923 تحت حراسة حرس الشرف ووسط استقبال شعبي حاشد، ويعرض هذا المصحف النادر في بعض الأحيان على الزوار الذين يقومون بزيارة متحف تاريخ شعوب أوزبكستان بطشقند.

والحقيقة أن طشقند بعد استقلال جمهوريتها أوزبكستان بحاجة إلى عناية المهتمين بالتراث الإسلامي ليس فقط على صعيد الاهتمام بترميم العمائر الأثرية القديمة، ولكن أيضا في مضمار تحقيق ونشر تراثها الفريد من المخطوطات الإسلامية، الذى سيكشف ولا شك عن جوانب مهمة من تاريخ التركستان وإنجازاته الحضارية وعلاقات ممالكه أيضا بمختلف ديار الإسلام.