برنامج إيران النووي وسياسة البركة في القليل
خطر امتلاك إيران الأسلحة النووية قائم بالفعل وحقيقي، بل وربما تفاقم ذلك الخطر أخيراً، وما ينقصنا الآن هو التوصل إلى السياسة المناسبة للتعامل مع هذا الخطر.
إن تقرير التقدير الاستخباراتي الوطني، الذي صدر في الولايات المتحدة اخيراً، والذي يؤكد أن إيران كانت «تجهز برنامجا لتصنيع الأسلحة النووية» لكنها علقته في عام 2003 يعني أنه من المحتمل أن تتراجع أميركا عن توجيه ضربة إلى إيران أثناء ولاية بوش، فكيف يفسر الرئيس الأميركي للعالم السبب الذي دفعه إلى قصف منشآت خاصة بتصنيع الأسلحة النووية بعد أن أكدت أجهزته الأمنية أن هذه المنشآت لا وجود لها؟وعلى هذا فقد أنقِذ العالم، في أغلب الظن، من العواقب التي كانت قد تترتب على سياسة مدمرة وغير ذات جدوى. الحقيقة أن التصرف الوحيد، الذي قد يضمن إصرار إيران على الحصول على الأسلحة النووية، يتلخص في الهجوم عليها، (فبعد تسعة أعوام من الغارة الجوية التي شنتها إسرائيل على مفاعل «تموز 1» العراقي في عام 1981، كان صدّام حسين على بعد عام واحد من امتلاك القنبلة النووية).
لكن تقرير التقدير الاستخباراتي الوطني توصل إلى هذه النتيجة باستخدام مسلك غريب، فكل شخص مؤهل تقنياً يدرك أن السبيل إلى إنتاج الطاقة النووية المدنية لا يختلف عن السبيل إلى إنتاج الأسلحة النووية، باستثناء بضع خطوات أخيرة بسيطة نسبياً، فالجزء الصعب في المسألة يتلخص في الحصول على المواد الانشطارية البلوتونيوم أو اليورانيوم العالي التخصيب، وبمجرد أن يتم هذا فإن أي دولة أو حتى أي جماعة إرهابية جيدة التنظيم قادرة على إتمام الخطوات المتبقية.يتطلب إنتاج الطاقة النووية استخدام اليورانيوم المنخفض التخصيب كوقود، وبتخصيب اليورانيوم إلى درجة أعلى باستخدام المنشآت نفسها يصبح بوسعك الحصول على يورانيوم مخصب إلى الدرجة التي تصلح للاستخدام في تصنيع القنبلة النووية، أما الخطوة الأخيرة-التي تتلخص في ضرب كتلتين من هذا اليورانيوم العالي التخصيب ببعضهما لخلق الكتلة الحرجة اللازمة للانفجار-فهي ليست بالخطوة الصعبة، حتى أن أي مستخدم لشبكة الإنترنت يستطيع الحصول على المخطط الأساسي لهذه العملية من العديد من المواقع، وأذكر هنا كيف كان نشر «سر» القنبلة الهيدروجينية في عام 1979 في مقال للكاتب هاورد مورلاند في مجلة ذا بروجريسيف، سبباً في الدعوى القانونية الخاسرة التي أقامتها حكومة الولايات المتحدة ضد الكاتب والمجلة.إن الجانب الشاق في العملية، الذي يتمثل في بناء المنشآت الخاصة بتخصيب اليورانيوم، هو بالتحديد ما يقوم به الإيرانيون بالفعل الآن، وإن لم تكن هذه المنشآت صالحة حتى الآن لتصنيع الكمية الكافية لتصنيع القنبلة، وهي الغاية التي قد يستغرق تحقيقها خمسة إلى عشرة أعوام من الآن، ولكن بمجرد حصولهم على القدرة الكافية فلن يتبقى أمامهم سوى الخطوات السهلة.لكن العمل على هذه الخطوات السهلة هو بالتحديد ما زعم التقرير في وصفه للبرنامج النووي الإيراني أن إيران سعت إلى تنفيذه ثم أقلعت عنه، وفي ضوء الحقائق الفنية، كان من الأحرى بالمسؤولين عن إعداد هذا التقرير أن يعتبروا أنشطة التخصيب الصعبة، والمعترف بها علناً من جانب إيران، هي جوهر البرنامج الإيراني لتصنيع الأسلحة النووية، وذلك لأن هذه الأنشطة في حد ذاتها كافية للتشجيع على إنتاج القنبلة الذرية، ومن المفارقات العجيبة هنا أن تعليق إيران للخطوات السهلة يخلق انطباعاً يوحي بأنها قد أوقفت برنامج تصنيع الأسلحة النووية، بينما لا تزال الأنشطة الأكثر أهمية جارية على قدم وساق وعلى مرأى ومسمع من الجميع.من المؤكد أن هذا لا يعني أن إيران، بمجرد حصولها على متطلبات التخصيب الكافية، سوف تسارع إلى إنتاج القنبلة، إلا أن المهم في الأمر هنا هو امتلاك هذه القدرة وليس النية، وتستطيع إيران ببساطة أن تفعل كما تفعل اليابان الاحتفاظ بمنشآت التخصيب جاهزة لتصنيع القنبلة دون تصنيعها بالفعل، أو ربما تفعل مثل الهند في عام 1974، فتنتظر مدة طويلة ثم تندفع إلى خط النهاية وتفاجئ العالم باختبار ذري. كيف نشأ مثل هذا الارتباك والخلط؟ تكمن إحدى الإجابات عن هذا التساؤل في شروط معاهدة منع الانتشار النووي، التي تحظر على أغلب الموقعين عليها تصنيع الأسلحة النووية، إلا أنها تضمن لهم الحق في بناء التكنولوجيا اللازمة لإنتاج الطاقة النووية، بما في ذلك تخصيب اليورانيوم، وهذا يعني أن المعاهدة تسمح لأي طرف موقع عليها بالحصول على أهم المنشآت اللازمة لتصنيع القنبلة الذرية.وعلى هذا فحين رغبت إدارة بوش في معارضة البرنامج الإيراني، لم يكن مجرد الإشارة إلى أنشطة التخصيب كافياً، بل كان عليها أن تشير إلى أنشطة أخرى، بما في ذلك الجهود السرية، التي تنتهك شروط معاهدة منع الانتشار النووي، وأن تؤكد أن هذه المخالفات خطيرة إلى الحد الذي يدعو إلى حرمان إيران من حق التخصيب.وعلى هذا الأساس انساقت الولايات المتحدة إلى إطلاق عدد من التصريحات المبالغ فيها، ففي ديسمبر 2005، قال نائب الرئيس ديك تشيني «لدينا كل الأسباب التي تجعلنا نعتقد أنهم يسعون جدياً إلى إنتاج الأسلحة النووية»، ويزعم الرئيس بوش الآن أنه منذ البداية كانت عمليات تخصيب اليورانيوم المشروعة، وليس البرامج السرية، هي التي قربت إيران من إنتاج الأسلحة النووية، إلا أن الإشارة إلى هذه النقطة الآن أصبحت عقيمة وبلا جدوى: فبعد أن أقامت الإدارة حجتها على أحكام خاطئة، أصبحت مصداقيتها الآن في موقف بالغ السوء بفعل تقديرات أجهزتها الأمنية.لقد أصبحنا الآن في موقف عامر بالمفارقات، فقد باتت سياسة «الكارثة المحتملة» - التي كانت تسمح بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران - مقطوعة الرأس بفضل تقرير استخباراتي مُـضَلَّل ومُـفَسَّر بطريقة خاطئة، والسؤال هنا هو لماذا وضع بوش وتشيني نفسيهما في هذا الموقف المحرج، أكد بوش أنه لم يعلم بنتيجة التقرير إلا قبل أسبوع من نشره_ وهو تصريح إما أن يكون زائفاً أو أنه يكشف عن مستوى من العجز وانعدام الكفاءة وراء كل ما أثير من الشكوك حتى الآن.لم يعد لأي من هذا أهمية الآن، فقد كانت عادة إدارة بوش في تزييف الحقائق سبباً في فضح ميولها البغيضة، الأمر الذي خلف فراغاً هائلاً في النهاية، والحقيقة أن المبدأ الذي يخول للقوى العظمى، وخصوصاً المسلحة نووياً، محاولة منع القوى الأقل منها شأناً من الحصول على الأسلحة النووية بالقوة أو التلويح باستخدام القوة- الإخفاق في العراق، وكوريا الشمالية المسلحة نووياً، والآن إيران- قد وصل الآن إلى طريق مسدود، ولكن سواء صدر مثل ذلك التقرير أو لم يصدر فإن خطر امتلاك إيران للأسلحة النووية قائم بالفعل وحقيقي، بل وربما تفاقم ذلك الخطر اخيراً، وما ينقصنا الآن هو التوصل إلى السياسة المناسبة للتعامل مع هذا الخطر.* جوناثان شِـل ، زميل معهد الأمة وزميل زائر لدى جامعة ييل، ومؤلف كتاب "العقد السابع: المظهر الجديد للخطر النووي".«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»