هل تقود الصحافة السياسة العربية؟

نشر في 09-06-2007
آخر تحديث 09-06-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

الصحف المطبوعة تبدو أكثر قدرة على التأثير في العقل العربي من أي وسيلة أو آلية أخرى للإعلام. فبوسعها أن تذهب إلى العمق، وهو ما لا تستطيعه وسائل الإعلام الأخرى. وبفضل هذا الامتياز فهي مازالت الآلية الأساسية لتشكيل تيارات الفكر والسياسة في عدد من المجتمعات العربية الكبيرة.

أفسدت السياسة الصحافة العربية طويلا. فخلال عقد الستينيات هيمنت الدولة العربية على الصحافة عن طريق التأميم والسيطرة السياسية والرقابية المباشرة. وكان الهدف من هذه الهيمنة في البداية توظيف الصحافة كأداة تعبوية. فالصحافة مثلها مثل الإذاعة والتلفاز كانت وسائل الزعامات الكارزمية في مخاطبة وضمان تأييد الجماهير. وفي سياق هذا التوظيف التعبوي فقدت الصحافة مهنيتها وتنوعها الخلاق وقدرتها على الرقابة على أداء السلطة السياسية. فأنت لا تناقش طالما أن وظيفتك هي «تعبئة» الجماهير خلف الزعيم، وبالتدريج خلف كل موظف يعيش من رضا الزعيم.

لم يتغير هذا النمط من داخل الدولة العربية بذاتها حتى بعد أن مرت بسلام، أو دون سلام، تلك الزعامات الكارزمية أو التاريخية. وإنما تغير بفضل عاملين أساسيين:

إن هيمنة الدولة العربية على إعلامها الداخلي تركت ثغرة أساسية، وهي المنافسات والصراعات بين الدول العربية، أو بالأحرى بين النظم السياسية. فالتعدد والتنافس الآيديولوجي شكلا إحدى أهم سمات النظام العربي منذ نشأته عام 1956. وبرز أول التحولات الكبرى في عالم الصحافة عندما حانت الفرصة لبعض الدول العربية الغنية لمخاطبة الرأي العام العربي، بل والنخب السياسية والثقافية العليا في عدد كبير من الأقطار العربية بتأسيس صحف كبيرة في لندن وباريس وروما، فبرزت ظاهرة الصحف العربية المهاجرة. وكان لابد من أن تمنح هذه الصحف قدراً كبيراً من الحرية المهنية، وتمكن بعضها من استلام زمام المبادرة المهنية، وصارت هي أهم الصحف العربية من الناحية الفنية، بل وأحيانا من ناحية التأثير على تكوين مزاج وأفكار النخب المثقفة في كثير من الأقطار.

ويمثل تأسيس الفضائيات امتداداً لهذه الظاهرة. إذ برزت أساسا في سياق المنافسات بين العائلات الحاكمة في الخليج، وكوسيلة للحصول على نفوذ كبير. وانطلقت الفكرة من خيال بالغ الخصوبة. فالنفوذ على العقول يمكن تحقيقه دونما ارتباط بقاعدة القوة الشاملة للدولة، كما تصور الفكر التقليدي. ولذلك أمكن لقطر، وهي دولة بالغة الصغر أن تؤثر على العقل العربي بأكثر من مئات الصحف والمحطات التلفازية التي تهيمن عليها الدولة من الداخل. وبتأثير هذا الخيال صارت المبادرة الصحفية والإعلامية بيد دول صغيرة، بينما بقيت معظم الدول العربية الكبيرة محرومة من المبادرة والتأثير الإعلامي بسبب استمرار هيمنة الدولة والحكومة.

واندفعت هذه الظاهرة نحو مزيد من التبلور بفضل عامل ثان، وهو الديناميكية التكنولوجية. فالتجديدات التكنولوجية جعلت من المستحيل تقريبا فرض الرقابة على البث الفضائي وعلى شبكة المعلومات الإلكترونية (الإنترنت). ومن ثم صارت الصحافة التلفازية والإلكترونية أكثر قطاعات الصحافة العربية تقدماً.

ولكن ازدهار الصحافة التلفازية والإلكترونية لم يفض، كما هو متصور، إلى القضاء على الصحافة المطبوعة. بل يبدو العكس صحيحا. ما حدث هو أن الفضاءين التلفازي والإلكتروني قدما دفعة قوية للاستثمار في الصحافة المطبوعة، على الرغم من أن جمهورها صار أقل عدداً وأكثر حرية في توزيع وقته بين مختلف وسائل الإعلام. وفي سياق هذه الدفعة القوية برزت ظاهرة الأحزاب الصحفية: أي الصحف المطبوعة التي تلعب دورا مشابها للدور الذي لعبته الأحزاب السياسية في العالم الغربي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

هل يعني ذلك أن الصحافة العربية المطبوعة قد تحررت من الهيمنة السياسية التي دمرت مهنيتها وقدرتها على القيام بالوظائف التقليدية للصحافة، كما شهدناها في العالم العربي؟

الواقع أن التحرر لا يزال جزئيا نسبيا للغاية. فأكثر الدول العربية لا يزال يفرض رقابة كبيرة على الصحف المطبوعة. كما إن صحف الدولة مازالت هي الأكبر حجما وقدرة على التأثير على الجماهير. وعلى الرغم من ظاهرة الفضائيات والتوسع المذهل للفضاء الإلكتروني، فإن غابة التشريعات المقيدة للحرية مازالت تخنق الصحافة المطبوعة في بعض البلاد العربية التي لم تتعلم الدرس.

ومع ذلك فإن الصحف المطبوعة تبدو أكثر قدرة على التأثير على العقل العربي من أي وسيلة أو آلية أخرى للإعلام. فبوسعها أن تذهب الى العمق، وهو ما لا تستطيعه وسائل الإعلام الأخرى. وبفضل هذا الامتياز فهي مازالت الآلية الأساسية لتشكيل تيارات الفكر والسياسة في عدد من المجتمعات العربية الكبيرة.

هل يعنى ذلك أن الصحف العربية المطبوعة ستقود السياسة العربية؟

لو حدث ذلك سيكون انقلاباً على واقع العلاقة بين السياسة والصحافة في النصف الثاني من القرن العشرين. ولكنه لن يكون انقلاباً على الأصل.

فالواقع أن الصحافة قامت بدور تاريخي في تشكيل الأمم الحديثة. ويتفق علماء الإعلام على أن الصحافة كانت مع السوق الرأسمالي الحديث بمنزلة «القابلة» التي ولدت الشعور بالانتماء الى أمة. فهي عممت استخدام اللغة «القومية»، أو أعادت تأسيسها، غالباً، من خلال تبني لغة العاصمة. ثم إنها شكلت الحقل السياسي من خلال تأثيرها على العقول، وبلورت تيارات السياسة الكبرى التي قادت التجربة السياسية، خاصة بعد الاستقلال. ولا يمكن تصور عهد ما بعد الاستعمار إلا من خلال الصحافة. فهي ليست فقط «ذاكرة» الأمة، بل «الرحم» الفعلي للأمة ذاتها.

ويمكننا أن نجيب بالإيجاب عن السؤال الذى طرحناه في الفقرات السابقة. نعم تستطيع الصحافة بتعريفها الواسع، وبالذات الصحافة المطبوعة، أن تقود السياسة العربية في المستقبل. وأسبابنا للإجابة بالتوكيد على السؤال متعددة:

أولها أن اللحظة السياسية الراهنة والمستقبلية في العالم العربي، هي لحظة تشكيل الإجابات الكبرى عن التحديات العظمى التي تواجه السياسة العربية، بل والشعوب العربية، فيما يبدو معركة البقاء ،الحقيقة، أن العقل العربي «حائر» ومضطرب، وهذا هو الفارق الكبير بين اللحظة الراهنة وعقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. كانت المحنة العربية قد تلقت «إجابة آيديولوجية» في الأربعينيات: إجابة أو إجابات حاسمة وقطعية وواضحة كنصل السيف. اللحظة الراهنة، هي على العكس: محنة كبيرة بدون إجابات جاهزة»، إلا عند تيار واحد، وهو التيار الإسلامي. ومن هنا ولّدت لحظة الأربعينيات انقلابات سياسية وعسكرية. أما اللحظة الراهنة فلم توّلد تغيراً أو إصلاحاً سياسياً يذكر. وهنا يمكن للصحافة العربية، باعتبارها أداة إشاعة الفكر أو تكوين تيارات السياسة، أن تتقدم الى صدارة المشهد السياسي في أكثر الدول العربية.

وسبب ثان جوهري للاجابة بالتوكيد، هو أن المعركة السياسية الكبرى في اللحظة الراهنة هي معركة العقول وليست السيوف. صحيح أن الواقع يقول إن السيف أمضى من القلم، ولكن حتى بعد أن يحسم السيف قضيته المباشرة، سيظل عليه أن يجيب عن سؤال وماذا بعد؟ لقد خضنا تجارب كثيرة ومتنوعة كلها فاشلة. ويعني ذلك أن الفشل متجذر وعميق ولا يمكن تجاوزه بالسيوف أو حتى بالطائرات والدبابات. وليس أدل على ذلك من فشل أعظم قوة عسكرية في التاريخ في الظفر بالحرب فى العراق. فترسانة القوة العسكرية العملاقة لا تستطيع قيادة ذاتها، بل وتضاعف المشكلة عندما لا يكون وراءها عقل، كما هي الحال فى النموذج الأميركي الراهن.

سبب أخير لقدرة الصحافة على قيادة السياسة، هو فقر السياسة بالمقارنة مع ثراء الأفكار. وعندما تتعب الحناجر من الصراخ، وعندما تضطر القوى المختلفة إلى وضع السلاح جانباً، سيتحتم عليها أن تنصت للأفكار الخلاقة. ولم يعد لدى العرب سوى تجريب الأفكار الخلاقة.

كاتب مصري

back to top