Ad

الدراما التلفزيونية الخليجية، باستثناء محاولات قليلة من عينة «طاش ما طاش»، متشبثة بتقديم «دراما جنس الملائكة»، حيث الأبطال أسوياء كاملو الأوصاف والمناقب، ولا يقعون في هفوة ولا كبوة، ولا يمارسون الخطأ أو الخطيئة! لذا تجد البرمجة التلفزية في المحطات التلفزية في دول مجلس التعاون تنأى بموضوعاتها عن الخوض في الهموم والقضايا التي يمكن أن تثير غضب وعتاب وحفيظة أحد!

* هاتف من صديق بمصر المحروسة يطلب من العبد لله حلقات المسلسل التلفزيوني السعودي الشهير «طاش ما طاش»، لعلمه بأني اعتدت تسجيله كل سنة. والحق أني لم أفاجأ برغبة هذا الصديق لأن الشعبية والنجاح الجماهيري اللذين حظي بهما المسلسل تجاوزا حدود السعودية، ليكون حاضراً في فضاء الخليج والجزيرة العربية بخاصة، وفي الأقطار العربية بعامة، ربما لأنه أول مسلسل سعودي يجرؤ على تعرية سوءة المجتمع وأخطائه وخطاياه، بصيغة ضاحكة لاذعة السخرية ومحرضة على الضحك والبكاء معاً! ولعل من نافل القول الإشارة إلى أن الدراما التلفزيونية الخليجية متشبثة بتقديم «دراما جنس الملائكة»، حيث الأبطال أسوياء كاملو الأوصاف والمناقب، ولا يقعون في هفوة ولا كبوة، ولا يمارسون الخطأ أو الخطيئة! لذا تجد البرمجة التلفزية في المحطات التلفزية في دول مجلس التعاون تنأى بموضوعاتها عن الخوض في الهموم والقضايا التي يمكن أن تثير غضب وعتاب وحفيظة أحد! وهم لا يكتفون بهذا المنحى داخل فضائهم الذي بات مشرعاً -رغم أنفهم- على الجهات الأربع، بل إنهم يصادرون أي مصنف إبداعي يدوس لهم على طرف، أو يظهر المجتمعات النفطية الخليجية بصورة خلق الله، أبناء وأحفاد آدم الذين يمارسون العصيان والخطيئة... ومن ثم يتوبون وينوبون ويستغفرون المولى سبحانه على خطاياهم!

*وأحسبني لا أغالي إذا زعمت أن دراما جنس الملائكة هي الحاضرة في خريطة الإنتاج والبرامج الخليجية، كما أن الاختلاف بين قطر خليجي وآخر يكمن في الدرجة فقط! ومن هنا تكمن أهمية إنتاج مسلسل «طاش ما طاش» بقدرات سعودية، اقتحم عرين «التابوهات» والممنوعات والمحظورات والمسكوت عنه! خصوصاً حلقاته التي بُثّت في السنوات الخمس الأخيرة من عمر المسلسل البالغ خمس عشرة سنة... اللهم زد وبارك!

ولذا «بدأ الهجوم، الهجوم الفعلي، عند مس مسلسل «طاش ما طاش» سلطتهم، عبر نقد، كان حذراً، لبعض الظواهر الاجتماعية التي تلبس لبوس الدين، وتعرّض لبعض مظاهر التدين الكاذبة، التي تتخذ سمة التقوى والتدين من أجل مصالحها... »، على حد تعبير الأديبة الباحثة الروائية بدرية البشر مؤلفة كتاب «معارك «طاش ما طاش»: قراءة في ذهنية التحريم في المجتمع السعودي» إصدار «المركز الثقافي العربي- 2007» في كل من بيروت والدار البيضاء.

* ذلك أن المسلسل تجاسر على سلطة وسطوة ذهنية التحريم، ومسها مساً خفيفاً، وانتقد ممارسات «الهيئة» إياها، من خلال حلقات «بدون محرم»، و«شو من لحية»، و«إرهاب أكاديمي»، فضلاً عن الحلقات الأخرى المكرسة لنقد سلوك وممارسات لا يسمح لأحد بمقاربتها والخوض فيها، وعلى الرغم من أن رد فعل المؤسسة الدينية تجاه المسلسل كان عنيفاً وضيق الصدر، ولا يؤمن بمقولة «رحم الله من أهدى إلى عيوبي» فإن هذا الموقف المتشدد أضفى على المسلسل جاذبية وشهرة وانتشاراً.

إن كتاب «معارك... طاش» هو قراءة في ردود الفعل (تجاه المسلسل) كما وثقتها الصحافة، حيث عمدت المؤلفة إلى اختيار عينة مما نشرته الصحف، سلباً أو إيجاباً، والتي بلغت أربعمئة مادة صحفية طوال الأربع عشرة سنة من عمر المسلسل، وقد خصصت الكاتبة فصلاً لذهنية التحريم: كيف نشأت، ولماذا سادت وانتشرت في ثقافة المجتمع السعودي، وثمة تفاصيل كثيرة، ووقائع شتى تدلل على شدة حضور ذهنية التحريم، منذ نشوء الدولة السعودية الحديثة حتى الآن، لكن المساحة المقررة لا تسمح بذلك. حسبنا التذكير بأن جهاز البرق والراديو والتليفون والميكروفون وتعليم البنات وغيرها تعد «بدعاً» تستوجب محاربتها، ومعاقبة المروجين لها! والمؤسف أن وزارات الإعلام في دول مجلس التعاون لا تحفل بالمباحث الخاصة بدراسة اتجاهات الرأي العام تجاه البرامج الإذاعية والتلفزية، دراسة علمية منهجية مفيدة وضرورية للبرامجيين الذين يضعون الخطط البرامجية الإذاعية والتلفزية.

*ولعلي أزعم أن «طاش» قد رجَّ سكون المجتمع، وخضه بشدة تمخض عنها حالة حراك فكري واجتماعي، تبدت في شهر رمضان، وتواصلت بعده، وما برحت حاضرة متأججة بالحوار حتى الآن. والكتاب المذكور آنفا دليل موثق مكتوب لأحد مظاهر الحراك الذي أحدثه بث المسلسل، لكن ذهنية التحريم وقفت بالمرصاد، واعتبرت أن كل ما يقال عن السلطة والحكومة، هو أمر يمسها ويمس سلطتها بحسب المؤلفة، وإذا كان التلفزيون في حد ذاته محرماً في عرف ذوي ثقافة التحريم، يصبح نفي ومصادرة وقمع وتحريم ما يبثه من تحصيل الحاصل! وحري بنا الإشارة إلى أن ثقافة التحريم لم تعد قاصرة على السعودية فحسب، بل إنها باتت حاضرة في الأقطار العربية كلها، والاختلاف بينها في هذا السياق يكمن في الدرجة! إن نشر وصدور كتاب معارك «طاش» في هذا التوقيت يردف حالة المراجعة التي قام بها أمير جماعة الجهاد وغيره لفقه وفكر «الجهاديين» اللذين ابتليت بهما الأمة!