عندما قررت «الجريدة» نشر مذكرات الدكتور أحمد الخطيب، فقد جاء ذلك القرار عن ادراك، ليس لأهمية ما ورد فيها من معلومات وأفكار وآراء فحسب، ولكن انطلاقا من رغبتنا في كسر حاجز وهمي طالما ظل يسيطر على الحياة السياسية الكويتية، وهو أنه على الرغم من ثراء وتنوع الفعل والنشاط الكويتي العام، إلا أننا نادراً ما نجد من يقدم تجربته من جيل الرواد لكي يتداولها الناس، ويتعرفوا عن كثب على شخصيات ورموز أثّرت وأثْرت وأعطت لبناء هذا الوطن، فأغلبية ما صيغ وما نشر من تلك التجارب لا تعدو كونها سردا طوليا، أو ملفات للصور، لا تحلل ولا تشرح بقدر ما تبين البعد الايجابي للشخص صاحب المذكرات، وقد ترتب على هذا نقص حاد وقصور شديد في المكتبة الكويتية الخالية من المذكرات الشخصية التي تمارس نقدا ذاتيا، وتلتزم الأصول المتعارف عليها لفن كتابة المذكرات، فكتابة المذكرات ليست كما قد يتصور البعض بأنها كتابة مؤرخين يستندون في كتابتهم الى مصادر موثوقة بالضرورة يتم استقاؤها من رسائل أو كتب، ولكنها سيرة ذاتية لصاحب المذكرات كما رآها هو، وكما فهمها هو، وكما عايشها هو، وهذا الامر يعني بالضرورة أنه قد تكون هناك حقائق مكملة غابت عن مشاهدة صاحب المذكرات، وهو أمر لا تثريب عليه، بل انه قد يكون حافزا لآخرين لأن يصححوا، ان كانوا يتصورون أن اغفالا ما قد حدث، دون الحاجة الى التجريح أو التجريم.
وهكذا كان قدر «الجريدة» أن تصدر في الوقت ذاته الذي انتهى فيه الدكتور أحمد الخطيب من كتابة مذكراته، فالتوقيت بالنسبة لنا كان فرصة لا تعوض للاقدام على هذه الخطوة، التي نسعى الى ان تتبعها خطوات أخرى مع شخصيات كويتية كانت لها اسهاماتها في مسيرة هذا الوطن، ونحن إذ نفتخر بأننا نشرنا مذكرات الدكتور أحمد الخطيب فإننا في الوقت ذاته نرحب بجميع الردود والتعقيبات. من هذا المنطلق يأتي ترحيبنا بنشر رد الدكتورة سعاد الصباح التي نكن لها الكثير من المودة والاحترام، ونحن في «الجريدة» وإن كنا نقدر الرغبة الصادقة للدكتورة سعاد الصباح في تثبيت الدور الذي أداه زوجها ورفيق دربها الشيخ عبدالله المبارك في مسارات الحياة السياسية الكويتية حتى مغادرته الكويت عام 1961، إلا أننا نختلف مع بعض الأحكام والنعوت التي وصفت بها الدكتور الخطيب، ولكننا على أي حال ملتزمون بنشرها كما وصلت الينا من دون حذف أو تعديل من أي نوع. لقد أوضح نشر مذكرات الدكتور الخطيب صحة ما ذهبنا إليه من الناحيتين المنهجية والاعلامية، فمن حيث المنهج فإننا فتحنا الباب لأسلوب جديد في التعاطي مع التطور السياسي في الكويت ظل مفقودا طوال هذه السنين، ونحمد الله اننا وفقنا في كسره مع شخصية بأهمية الدكتور أحمد الخطيب ورمزيته. أما من الناحية الاعلامية فقد كانت المتابعة غير المسبوقة للمذكرات وتجاوب القراء معها دليلا آخر على أنه مازالت هناك مساحة واسعة لتقديم مادة ذات نوعية جادة ومقروءة في الوقت ذاته. ولا يسعنا هنا إلا التقدم بالشكر للدكتورة سعاد الصباح على مسعاها الذي نعلم انه سيثير أيضا جدلا وردود أفعال نأمل ان تستمر، فتاريخ الكويت ليس ملكا لأحد، بل هو ملك للكويت كلها، وطالما اننا مازلنا نتنفس نسائم الحرية، فللجميع الحق -من دون استثناء - في أن يقول رأيه. أوضحت د.سعاد الصباح في الحلقة الأخيرة من تعقيبها على ذكريات د.أحمد الخطيب أن الشيخ عبدالله المبارك لم يسع إلى الحكم، بل إنه تصرف في هذا الشأن بأسلوب راق للحفاظ على تماسك الأسرة والوطن، وأنه عندما قرر اعتزال الحياة السياسية والاستقالة كان ذلك بمحض إرادته، وأكدت أنه لم يفكر قط في استخدام القوة لفرض رأيه على الآخرين. ورأت د.سعاد الصباح أن عبدالله المبارك عاش عشر سنوات من حياته نائبا للحاكم الشيخ عبدالله السالم الذي كان يعتبره يده اليمنى في إدارة البلاد. أصدر د. أحمد الخطيب كتاباً بعنوان «الكويت: من الإمارة إلى الدولة، ذكريات العمل الوطني والقومي» ضمّنه مسيرة حياته، وإسهامه في العمل العام الكويتي، وتضمن معلومات وآراء جديرة بالتوقف، وتستحق الرد وذلك احتراماً لحقائق التاريخ. وحسناً فعل المؤلف حين قدم لكتابه بقوله: «هذه ليست دراسة علمية ولا ينبغي لها أن تكون كذلك، فهي ليست إلا رحلتي ورؤيتي عبر الحياة كما عشتها وشاهدتها، لا كما عاشها أو شاهدها غيري، وبالتالي فليس المطلوب هنا أن تكون مرآة عاكسة لما حدث ولكنها الأشياء كما رأيتها... إلا أن الحقيقة هي أن أفكاري وآرائي لم تكن إلا وليدة وقتها... وبالتالي فهي أفكار وآراء مرتبطة في مجملها بالزمن الذي ظهرت فيه وتأثرت بمعطياته» (ص13). وأضاف أنه سجل هذه الذكريات من الذاكرة، لأنه لم يكتب مذكرات ينقل عنها ويقول «ولم أكتب أي مذكرات طول حياتي» (ص14). لقد قرر المؤلف هنا أمرين مهمين: أولهما، أن هذه الأوراق التي نشرها هي وليدة لرؤيته هو فقط، وثانيهما، أن تلك الأفكار والآراء مرتبطة بزمنها ومتأثرة بمعطياته، ومن قراءة هذه الأوراق يبدو واضحاً أن د. الخطيب لم يراع ِحق الآخرين في أن تكون لهم رؤاهم وأفكارهم، وبالتالي ممارستهم النابعة من زمنهم ومعطياته، ومن ثقافتهم المتصلة بمجتمعهم، ومن موقعهم في الحياة، فهناك فارق كبير في الظروف الموضوعية التي تحيط بالكاتب أو الناشط السياسي مثلاً، وتلك المحيطة بمن يتولون الحكم ويتخذون القرارات التي تؤثر على مسيرة المجتمع والدولة، فعلى هؤلاء أن يتدبروا عواقب ما يتبنونه من مواقف أو يتخذونه من قرارات، لأن آثارها وتداعياتها لا تلحق بهم فقط وإنما على مجمل شعب الكويت. لقد أعطى د. الخطيب نفسه الحق في أن يكون له رؤاه وأفكاره، وهذا حق طبيعي ومشروع، ونحن نحترم ذلك، لكنه لم يعط ِ الآخرين حقهم في أن تكون لهم رؤاهم وأفكارهم المختلفة مع ما يعتقد فيه هو، والتي ينبغي فهمها وتقدير أسبابها في إطار ظروفهم ومواقعهم. والقارئ لذكريات د. الخطيب يخرج بانطباع عن أنها تعبّر عن كراهية عميقة لأسرة الصباح ولدورها في الحياة الكويتية، ولا أعرف أسباب ذلك، وهو على أي حال أدرى بمصادرها ودوافعها، وحافظ المؤلف على حجم الكراهية التي انزرعت في نفسه قبل 50 عاماً، مما يجعل القارئ الباحث عن الحقيقة في حيرة من أمره، إذ يكون عليه أن يتزود بكراهية مماثلة، وهو ما أعجز عنه، أو يكون عليه أن يتعامل مع بعض الحوادث الواردة في الكتاب باعتبارها رواسب واسقاطات يخضع تقييمها للمنطق وحده، ما دام جميع الشركاء فيها أو الشهود عليها قد رحلوا عن دنيانا إلى دنيا الحق، ولم يبقَ إلا صاحب الكتاب حياً ليروي من الأحداث ما يشاء، ويحدد ظروفها ووقائعها، وهو في طمأنينة كاملة إلى أن أحداً لا يستطيع نفيها أو تكذيبها، وهو شاهدها الحي الوحيد. والقارئ لكتاب ذكريات د. أحمد الخطيب لابد أن يلاحظ حرصه على الزج باسم الشيخ عبدالله المبارك بمناسبة أو من دون مناسبة عبر صفحات الكتاب. وقبل إعلان استقلال الكويت بيومين صدر المرسوم الأميري رقم 7 لسنة 1961، في 17 من شهر يونيو عام 1961. وفي أعقاب صدور هذا المرسوم، طلبت جريدة "الحياة" من الشيخ عبدالله المبارك التعليق على ما حدث، فرفض الشيخ عبدالله المبارك، وسجلت الجريدة ذلك [جريدة الحياة بتاريخ 20 يونيو 1961]، ويبقى السؤال المحيّر للباحثين والمؤرّخين هو: لماذا لم تعلن استقالة الشيخ إلا قبل الاستقلال بيومين؟ حرص الشيخ عبدالله المبارك على وضع أسرة الصباح وتضامنها، ولم يكن لديه أدنى استعداد للقيام بأي عمل يهدد وحدة الأسرة أو يثير الخلافات داخلها، وكان هذا هو أحد مفاتيح شخصيته التي لم يفهمها الإنكليز قط، لقد اختزنت نفسه طموحات عريضة تتعلق ببلاده، ورغب في تحديث الكويت وتطويرها بسرعة، ودافع بحماسة عن آرائه وعمّا اعتقد أنه الصحيح، ولكنه لم يفكر قط في استخدام القوة لفرض رأيه أو موقفه على الآخرين. وخلافاً لما تردّد في الوثائق البريطانية من أن: «جهود الشيخ عبدالله المبارك لتسليح الجيش الكويتي وزيادة عدده قد أثارت المخاوف لأنها أدّت إلى دعم نفوذه السياسي»، فإن الشيخ عبدالله المبارك لم يفكر في الجيش إلاّ باعتباره درعاً للوطن في مواجهة المطامع الخارجية، وأساساً لا غنى عنه لبناء الدولة الحديثة. لذلك، فإن حديث التقارير البريطانية عن استخدام القوة وعن احتمال قيامه بانقلاب يعكس عدم فهم للرجل وللعلاقات داخل الأسرة. وأكبر دليل على ذلك هو ما حدث في عام 1950 عند وفاة الشيخ أحمد الجابر، أو في عام 1960 عندما حدثت خلافات مع الأمير حول عدد من قضايا الحكم. وكما أوضحت من قبل، فقد كان الشيخ أحمد الجابر مريضاً للغاية في أيّامه الأخيرة، وترك السلطة بأكملها تقريباً للشيخ عبدالله المبارك، وعندما توفّاه اللّه، أرسل الشيخ عبدالله المبارك برقية إلى الشيخ عبدالله السالم، الذي كان في طريقه الى الهند، يطلب فيها منه سرعة العودة. ولم يتمكّن الشيخ عبدالله السالم من حضور مراسم الدفن والعزاء، وكان الشيخ عبدالله المبارك هو الذي استقبل المعزّين وتلقّى العزاء على رأس أفراد الأسرة. ولم يحدث قط أي خلاف على السلطة في ذلك الوقت، وكما أخبرني الشيخ عبدالله المبارك، فإنه عندما اجتمعت الأسرة للبحث في اختيار خليفة للشيخ أحمد الجابر، فإنه وصف الشيخ عبدالله السالم بأنه «والدي وهو أحقّ مني». ولمدة عشر سنوات تالية، كان الشيخ عبدالله المبارك هو نائب الحاكم ويده اليمنى في إدارة البلاد، وكان الحاكم يترك له الكثير من الأمور ليباشرها بنفسه، كما أوضحت. وكان الشيخ عبدالله المبارك حريصاً على إبراز كل مظاهر الاحترام والتقدير للشيخ عبدالله السالم، وكان يفعل ذلك بشكل تلقائي وطبيعي بحكم العادات التي تربّى عليها، والقيم التي طبعت تفكيره وسلوكه. وزاد من دور الشيخ عبدالله المبارك وأهميته خلال هذه الفترة الطباع الشخصية للشيخ عبدالله السالم وميله للسكينة، وعدم رغبته في التدخّل في القرارات اليومية المتعلّقة بتسيير أمور الحكم، وهو ما اضطلع به الشيخ عبدالله المبارك. لهذا، توطّدت علاقة حميمة بين الرجلين، علاقة حكمتها مجموعة متداخلة من العوامل، منها احترام الصغير للأكبر سناً، ومنها رابطة الدم بين الإنسان وعمه، ومنها روح التفاني والإخلاص في العمل التي مارسها الشيخ عبدالله المبارك وكسب بها حبّ ابن شقيقه الشيخ عبدالله السالم واحترامه. لذلك، كان الحاكم يسافر كثيراً إلى الخارج معتمداً على وجود يده اليمنى ونائبه، وكان من الملاحظ عموماً أنّ الشيخ عبدالله المبارك لا يسافر لقضاء إجازته السنوية إلا عندما يكون الحاكم موجوداً. وكان ولاء الشيخ عبدالله المبارك للحاكم مطلقاً ومن دون حدود. وفي فترات سفر الشيخ عبدالله السالم، حرص على استشارته - تلفونياً - في القضايا المهمة. والتباحث معه وإطلاعه على ما يحدث في الكويت. وليس عندي أدنى شك في أن العلاقة بينهما كانت تتسم بأعلى مراحل الصفاء والسمو الأخلاقي. وعندما توفّي الشيخ عبدالله السالم في عام 1965، عاد الشيخ عبدالله المبارك إلى الكويت لحضور مراسم الدفن، وكان قد زاره قبلها أثناء مرضه في المستشفى. بعد انتهاء الدفن، قام الشيخ صباح السالم، وقبّل رأس عمّه الشيخ عبدالله المبارك، قائلاً: «الحكم لك يا عمي»، فردّ الشيخ عبدالله المبارك بأنه عاد لحضور مراسم الدفن والعزاء بابن أخيه، وقال: «أنا أثق بكم، وأبارك كل اختياراتكم». وتكرّر نفس الشيء مرة أخرى في ديسمبر من عام 1977 عندما توفي الشيخ صباح السالم، فقد كان الشيخ عبدالله المبارك موجوداً في الكويت. ولمّا بدأت المشاورات حول اختيار الحاكم، تردّد عليه بعض كبار رجال الأسرة مقترحين أنه الأقرب إلى الحكم، إلاّ أن الشيخ عبدالله المبارك رفض الفكرة، وبارك ترشيح الشيخ جابر الأحمد أميراً، والشيخ سعد العبدالله ولياً للعهد. وكما حرص على وحدة الأسرة وتضامنها، فقد اهتم بصورتها وهيبتها، والتزم بذلك حتى بعد استقالته إلى أن انتقل إلى جوار ربّه في يونيو عام 1991. وأعود إلى سنة 1960 وكيف تداعت الأحداث على النحو الذي تمّ. ففي العام الأخير قبل استقلال الكويت، برزت وجهات نظر مختلفة بين الشيخ عبدالله المبارك والأمير حول عدد من الأمور، وكانت هناك تطورات مشكلة الحدود مع العراق، وكان رأي الشيخ عبدالله المبارك أن بعض الأطراف الأجنبية ليس لها مصلحة في حلّ النزاع مع العراق، وأن استمرار تدخلها يؤدي إلى تغذية الخلاف وتمديد أجله. وكانت هناك قضية تسليح الجيش الذي رأى فيه الشيخ عبدالله المبارك درع الدولة والمجتمع، وأكّد على أهمية الاستمرار في تطوير قدراته. وكانت هناك قضية التسرّع في إصدار القوانين الوضعية وبالذات مدوّنة القانون المدني والجنائي. ورأى الشيخ عبدالله المبارك ضرورة إتاحة وقت أطول للتشاور والتفكير في الآثار المترتبة على تلك القوانين وذلك حتى يحظى القانون بالشرعية الاجتماعية اللازمة لضمان احترام المواطنين له وتنفيذه. فقد لاحظ الشيخ عبدالله المبارك، مثلاً، أنّ بعض مواد القانون لا تعبّر عن الأوضاع الاجتماعية لشعب الكويت وقيمه، وأنّها تخالف التقاليد والأعراف السائدة (مساعدة شخص أصيب في حادثة في الطريق العام قبل حضور الإسعاف، أو الحق في استخدام السلاح دفاعاً عن النفس عند اقتحام شخص غريب للمنزل)، كما أنّها لا تراعي الفارق بين ظروف أهل المدن وأحوال البادية والقبائل، وقد أثبتت التجربة والممارسة بعد ذلك صحّة وجهة نظر عبدالله المبارك [هناك مواد أخرى في القانون لا أتذكرها، لأن أوراقي فقدت من القصر الأبيض خلال فترة الغزو العراقي للكويت. فقد سرق البيت كما سرق الوطن...]. والأمر المؤكد أن الخلاف لم يثر حول السلطة أو من يخلف الحاكم، لأن الشيخ عبدالله المبارك كان نائب الحاكم، وكان من ناحية البروتوكول والمراسم يأتي بعد الأمير مباشرة سواء من حيث الجلوس في الأماكن العامة، أو من حيث ترتيب الأسماء في وثائق الدولة والصحافة. وكان رقم جواز سفره الذي كان يحمل رقم 2 بعد الأمير مباشرة، وظلّ يحتفظ بهذا الرقم في كل تجديد للجواز حتى وفاته. كان ذلك يعني أنه يتولى الحكم تلقائياً - وحسب التقاليد المرعية في الأسرة - في حالة وفاة الأمير. ولو كان الشيخ عبدالله المبارك راغباً في الحكم وحسب، فما كان عليه سوى الانتظار والترقّب. وحتى ما يُقال عن التنافس بين الشيخ عبدالله المبارك والشيخ فهد السالم، الذي ضخمته بعض التقارير والروايات فإنه انتهى عملياً بوفاة الشيخ فهد عام 1959. لقد كان سن الشيخ عبدالله المبارك، وخبرته في الحكم والإدارة، ونفوذه الفعلي في الجيش والشرطة والبادية، وعلاقاته الخليجية والعربية، تجعل موضوع تولّيه الحكم بعد الشيخ عبدالله السالم أمراً طبيعياً ويسيراً ومتوقعاً من كل الأطراف. وحتى بعد اعتزاله، فإنه رفض الدعوات للعودة للحكم بشكل حاسم برغم وجود فرص مواتية لذلك، وتشجيع بعض العناصر الداخلية والحكومات العربية له بدعوى أحقّيته في الحكم، واعتبر أن مجرد البحث في هذا الموضوع هو خيانة للوطن ولأسرة الصباح. لذلك، لا أتصوّر أن الإنكليز كانوا بمنأى عن تصاعد الخلافات بين الأمير ونائبه. فقد خشوا من زيادة نفوذ الشيخ عبدالله المبارك في الكويت، ومن علاقاته العربية، ومن تأثير توجهاته على منطقة الخليج. ولعلّنا نستطيع أن نتصوّر وقع بعض تصريحاته مثل قوله: «إن بلاد العرب للعرب، ودعمه للجيشين السوري والمصري وإلغائه لتأشيرة دخول الكويت بالنسبة للعرب، وتأييده لتأميم شركة قناة السويس، وحماسته للتضامن العربي والوحدة العربية، والصداقة الشخصية التي تربطه بالرئيس جمال عبدالناصر وأعضاء مجلس الثورة المصري». والخلاصة، أن الشيخ عبدالله المبارك لم يكن الشخص الذي يرتاح الإنكليز له، لاستقلاله برأيه واعتزازه بنفسه، لذلك فقد حرصوا على إبعاده عن السلطة قبل حصول الكويت على الاستقلال. ولعلّي أذكر هنا أنني خلال إعداد كتابي "صقر الخليج" اطّلعت على المذكّرات السياسية (Political Diaries) التي تتضمن تقارير الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، ولاحظت أن المذكرات عن الفترة 25 أبريل - 24 مايو، وكذلك الفترة 25 أغسطس - 24 سبتمبر من عام 1961 لم يكشف عنها النقاب بعد. وبرغم أن هذه الوثائق ليست ذات طبيعة غاية في السريّة (Top Secret)، وبرغم مضي أكثر من ثلاثين عاماً عليها، فإنّه لم يتم توفيرها للباحثين، ولعلّ في ذلك، ربما، إشارة إلى أهمية وحساسية ما تتضمنه من معلومات وتقييمات حول دور بريطانيا في هذا الوقت. ولكن عندما حلّ موعد زيارة رسمية للملك سعود إلى الكويت في مطلع شهر أبريل، سارع بالعودة ليكون في استقباله حرصاً منه على تضامن الأسرة ووحدتها، وكذلك بسبب الصلة الوثيقة التي ربطت الشيخ عبدالله المبارك بالسعودية. وشارك الشيخ عبدالله المبارك في احتفالات استقبال الملك، وأعدّ عرضاً عسكرياً مهيباً للجيش الكويتي [نشرة أخبار المملكة العربية السعودية، بتاريخ أبريل 1961]، واستضاف أبناء الملك في قصر مشرف. أتذكّر جيداً أحداث الليلة السابقة لمغادرتنا الكويت للمرة الثانية: كنّا نجلس في حديقة القصر الأبيض على الأرض. كان الليل قد ألقى بظلاله بعد انصراف ضيوف «الديوانية»، وبقي عدد من المقرّبين إليه من بينهم الشيخ مبارك العبدالله الجابر، وحمد الحميضي، وسليمان الموسى، ومحمد جعفر، وعبدالرزاق القدومي، ويعقوب بصارة، وسالم بو حديدة، وعزّت جعفر. كنت أجلس بجواره، وأتذّكر أنّه دعا عزّت جعفر للاقتراب منه وسلّمه رسالة، وطلب منه تسليمها للشيخ عبدالله السالم، وكانت الرسالة تتضمن خطاب استقالته الذي كتبه بخط يده إلى أمير البلاد. وحرصاً منه على أن يترك للأمير إعلان الاستقالة بالشكل الذي يريده، وفي التوقيت الذي يراه، فقد ترك التاريخ دون تحديد، وطلب من جبره شحيبر إعداد الطائرة للسفر إلى لبنان، وبالفعل سافرنا يوم 17 أبريل. صعدنا إلى الطائرة في الساعة السادسة صباحاً، وهو توقيت سفرنا دائماً، وكان في وداعنا عدد من الأصدقاء، وصعد معنا الشيخ مبارك العبدالله الجابر الذي كان الشيخ بالنسبة له أباً ومعلّماً، وحاول ثنيه عن السفر، وأجهش بالبكاء من شدّة تأثره. وقتها قال الشيخ: «إنّه ترك الكويت في أيدٍ أمينة، وإنّه بلغ مرحلة آن له فيها أن يخلد للراحة». وبعد أيام من سفرنا إلى بيروت، أرسل الشيخ عبدالله السالم وفداً يضم الشيخ مبارك العبدالله الجابر وحمد الحميضي والشيخ ناصر صباح الناصر يحملون رسالة من الأمير يطلب فيها من الشيخ عبدالله المبارك العودة للتفاهم. فقال الشيخ عبدالله المبارك ان: «موقفه معروف ورأيه في القضايا موضع الخلاف ليس محلاً للتغيير. ومرةً ثانية بعث الشيخ عبدالله السالم الشيخ خالد العبدالله السالم والشيخ ناصر صباح الناصر إلى الشيخ عبدالله المبارك إلى جنيف. ومرةً ثالثة إلى بيروت، وكان جوابه لا يتغيّر. عندما اندلعت الأزمة مع العراق في يونيو، لم يكن الشيخ عبدالله المبارك ليسمح لنفسه بأن يكون في الخارج في الوقت الذي تتعرض فيه الكويت للتهديد، فسارع إلى العودة مرّة ثانية يوم 27 يونيو، وأبدى استعداده للعمل - كمواطن كويتي - في أي موقع. وبعد أن عاد إلى بيروت أعلن وقتها أن الأمير قد طلب منه الاتصال بالأمين العام لجامعة الدول العربية لتنسيق المواقف العربية المؤيدة للكويت [Confidential Annex to Kuwait Diary n.7 covering the period from June 25 to July 24. 1961]. وخلال هذه الأزمة، استخدم الشيخ عبدالله المبارك علاقاته بضباط الجيش العراقي لتعطيل مخطّطات الاقتراب من الحدود الكويتية. وساهم في ذلك قائد الفرقة المدرعة الثالثة، الذي قام الشيخ عبدالله المبارك بعد ذلك بترتيب منحه حق اللجوء السياسي إلى مصر. والحقيقة، أن الشيخ عبدالله المبارك رفض أي تدخل خارجي أو وساطة في العلاقة بينه وبين إخوته من أسرة الصباح. كما رفض بعنف محاولات بعض الدول التي سعت لاستثمار هذا الخلاف، أو العروض المستترة التي قدّمها البعض لدعمه لاستعادة منصبه في الكويت. كان يكرّر دوماً: «لقد استقلت بمحض إرادتي، وسجلّي أحمله بيميني، ودوري محفور في تاريخ الكويت لا يمكن أن ينكره أحد». وفي عام 1965، تردّدت الشائعة مرّة أخرى، وكان مؤداها أن الشيخ عبدالله المبارك يدبّر لانقلاب عسكري، ويؤلف حكومة في الخارج. سارع الشيخ عبدالله المبارك بالعودة إلى الكويت كأن لسان حاله يقول: «ها أنذا موجود بينكم، أنا لا أقبل أن أفعل أي شيء ضد وطني وأسرتي وأهل بيتي». وكان في استقباله في المطار الشيخ خالد العبدالله السالم، والشيخ جابر الأحمد، والشيخ محمد الأحمد الجابر، والشيخ سعد العبدالله السالم [جريدة اليوم بتاريخ 23 مايو 1965]. وعاد مرةً ثانية للكويت في سبتمبر للاطمئنان على صحة الشيخ عبدالله السالم [جريدتا الحياة والنهار بتاريخ 28 سبتمبر 1965]. وعند وفاته في أكتوبر، سارع بالعودة وشارك في الجنازة ومراسم الدفن [جريدة الحياة بتاريخ 26 أكتوبر 1965]. ولم يتوقّف الشيخ عبدالله المبارك عن نشاطه السياسي، كان بيتنا بمنزلة خليّة نحل يرتادها الكويتيون الذين يحضرون إلى لبنان، ويعج بالصحافيين والسياسيين اللبنانيين من كل صوب واتجاه. واستخدم الشيخ عبدالله المبارك نفوذه السياسي والأدبي لدعم الرئيس جمال عبدالناصر وسياساته. ويبدو أن ذلك كان موضع متابعة وتقدير من أجهزة السفارة المصرية في بيروت، كما يعكس ذلك التقرير المؤرخ في 21 فبراير 1963 بعنوان «نشاط وميول والاتجاه السياسي للأمير عبدالله مبارك الصباح» [صورة التقرير في الوثيقة رقم (55)، سعاد محمد الصباح، صقر الخليج]. وخلال إقامتنا بمصر، عاملت السلطات المصرية الشيخ عبدالله المبارك معاملة خاصة، وكانت العلاقة بين الشيخ وعبدالناصر وقادة الثورة وطيدة ومتميزة. فأصدر الرئيس عبدالناصر توجيهاته لمنح الشيخ عبدالله المبارك حق الإعفاء الجمركي أسوة برؤساء الدول. وكان للشيخ عبدالله المبارك ترتيب بروتوكولي متميز في المناسبات والاحتفالات السياسية التي يحضرها الرئيس، مثل افتتاح دورة مجلس الأمة أو الاحتفال بذكرى ثورة يوليو، أو زيارة بعض رؤساء الدول العربية. كما كان الرئيس يدعوه في المناسبات الخاصة. وعندما توفي عبدالناصر في سبتمبر عام 1970، كان الشيخ من أوائل الذين سارعوا بالذهاب إلى منزل الأسرة في منشية البكري ثم إلى قصر القبة. واستمر هذا الترتيب البروتوكولي المتميز للشيخ عبدالله المبارك في عهد الرئيس السادات. وخلال هذه السنوات كلّها، حرص الشيخ على مواصلة دوره الوطني والقومي. فعندما وقع الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة في 28 سبتمبر عام 1961، ارتفع صوت الشيخ عبدالله المبارك في الصحافة اللبنانية مندّداً بالحدث. وبمناسبة أسبوع نصرة الجزائر في لبنان تبرع الشيخ عبدالله المبارك بمائة ألف ليرة [جريدة اليوم بتاريخ 23 يونيو 1962]. وبمناسبة إعلان قيام الاتحاد الثلاثي بين ج.ع.م وسوريا والعراق في عام 1963، أهدى الشيخ 100 سيارة جيب للجيش المصري [جريدة اليوم بتاريخ 11 يناير 1963]، وقام بدعم اتحاد طلاب فلسطين في غزة [جريدة اليوم بتاريخ 27 فبراير 1964]. وفي عام 1966، أرسل الشيخ عبدالله المبارك شيكاً بمبلغ مليون دولار للرئيس عبدالناصر «تاركاً للرئيس أمر توجيهه إلى أي غرض من أغراض النفع العام كما يراه»، وخصّص الرئيس المبلغ للكليات العلمية بجامعة القاهرة وبالذات مستشفى قصر العيني [جريدة اليوم بتاريخ 25 نوفمبر 1966]. وعندما نشبت حرب 1967 وعلم الشيخ عبدالله المبارك بحاجة مصر إلى بعض الاحتياجات الطبية والدوائية، سارع - وكنّا في جنيف - بتدبير المطلوب من خلال صيدلي من أصل مصري - د. غليونجي - وتمّ إرسال عدد من عربات الإسعاف والأدوية كما تبرّع الشيخ بمليون جنيه مصري لمصلحة المجهود الحربي. واستمرّ دعمه للقضية الفلسطينية، وفي أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982، تبرّع الشيخ بمبلغ مليون دولار نصفها في شكل أدوية ونصفها الآخر نقداً للمقاومة الفلسطينية، وقد أرسلت عن طريق الصليب الأحمر الدولي في جنيف، وتبرع للجيش المصري بعد حرب أكتوبر 1973. وخلال هذه السنوات، لم أشعر أبداً بأن الشيخ عبدالله المبارك نَدم على استقالته، بل كان يشعر بأنه قد أخذ فرصته كاملة، وقام بدوره في خدمة وطنه. لم يفكر قط في استخدام علاقاته الواسعة مع رجال الصحافة والإعلام للرد على هذه الافتراءات. فما كان الشيخ عبدالله المبارك يتصوّر أن يكون خلف حملة إعلامية تستهدف انتقاد سياسة بلده أو أسرته. لذلك فقد التزم الصمت، ولم يُدْلِ بأي تصريح صحفي حول الشؤون الداخلية أو الخارجية للكويت خلال الثلاثين عاماً التي مرّت ما بين استقالته ووفاته. عبدالله المبارك... حاكم بالإنابة وباستعراض التقارير الشهرية للوكيل السياسي التي كان يوثق فيها تواريخ سفر كبار المسؤولين في حكومة الكويت، يتّضح أن الشيخ عبدالله المبارك تولّى الحكم بالنيابة لأول مرة عام 1950، ثم عام 1951. ثم تولاّه في عام 1952 لمدة ثلاثة أشهر (مارس ونوفمبر وديسمبر)، وفي عام 1953 لمدة ثلاثة أشهر أيضاً (فترة الصيف)، وفي عام 1954 لمدة شهرين (أبريل ومايو). وفي عام 1955 لمدة ثلاثة أشهر (أبريل ومايو وديسمبر)، وفي عام 1956 لمدة شهر واحد (أكتوبر)، وفي عام 1957 لمدة أربعة أشهر (أبريل ويونيو ونوفمبر وديسمبر)، وفي عام 1958 لمدة تسعة أشهر (ما عدا أغسطس وسبتمبر وأكتوبر)، وفي عام 1959 في أغلب الشهور لسفر الحاكم كل شهر من شهور السنة ما عدا شهر أكتوبر. وفي عام 1960 لمدة ستة أشهر (يناير وأبريل ومايو ويونيو وأكتوبر ونوفمبر). ويلاحظ أنه في «السنوات الثلاث السابقة» للاستقلال، تزايدت مهام نائب الحاكم بسبب مرض الحاكم وازدياد فترة غيابه ولمّا كانت هذه المرحلة تعد منعطفاً تاريخياً نحو نشأة الدولة الحديثة والحصول على الاستقلال، فإن دور عبدالله المبارك في هذا المنعطف التاريخي نحو بناء المؤسسات الحديثة كان محورياً ورئيسياً. تؤكد ذلك عشرات التقارير التي كتبها الوكيل السياسي والقنصلية الأميركية في هذا الشأن، وسوف أقتبس من بعض هذه التقارير التي كتبت خلال الفترة 1957 - 1960، أي الفترة التي سبقت الاستقلال مباشرة. ففي تقرير للوكيل السياسي بتاريخ 17 يناير عام 1957، لاحظ أن الحاكم لم يعد يهدد بالاستقالة أو بالتنازل عن الحكم أخيراً ولكن «الفترات التي يقضيها خارج الكويت أصبحت أطول وعددها أكثر» [From Political Agency (Bell) to Political Residency (Burrows), January 17. 1957]، وفي عام 1959، تكرّرت إشارة الوكيل السياسي إلى ذلك، فأشار في تقرير له بتاريخ 11 فبراير إلى أن الحاكم يقضي في الخارج أوقاتاً طويلة، «ويزور الكويت من آن لآخر، وأنه نادراً ما يحكم» [From Political Agency (Halford) to Political Residency (Middleton), February 11. 1959]. وفي يونيو من نفس العام، ذكر الوكيل السياسي أن: «الشيخ عبدالله المبارك يقوم بمهام الحاكم أغلب الوقت» [From Political Agency (Halford) to Foreign Office (Beaumont). June 25, 1959]، وأضاف في تقرير له بتاريخ 5 أغسطس بأنه يمكن اعتبار الحاكم في حالة «شبه تقاعد في لبنان، وأنه يزور الكويت من وقت لآخر» [From Political Agency (Halford) to Political Residency (Man), August]، في عام 1960، أشارت التقارير البريطانية إلى هذا الموضوع عدّة مرّات. ففي تقرير للوكيل السياسي بتاريخ 19 مايو، كتب أن عبدالله المبارك يُمارس «مهام الحاكم بالنيابة» لفترات طويلة [From Political Agency (Halford) to Political Residency (Middleton), May 19. 1960]، وفي 5 يونيو من العام المذكور، ورد في تقرير آخر أن: «الحاكم يغيب عن البلاد أغلب الوقت، وأنه في فترة غيابه يتولّى عبدالله المبارك مهام الحاكم بالنيابة» [From Political Agency (Richmond) to Political Residency (Middleton), June 5. 1960]، وفي التقرير السنوي لعام 1960 الذي قدّمه المقيم السياسي عن أحوال الكويت، ذكر أن: «الحاكم استمر في تحاشي التورّط في المشاكل اليومية للأسرة الحاكمة والمجتمع الكويتي عموماً، وذلك بإقامته أغلب الوقت خارج الكويت» [Annual Report for 1960 by Political Residency (Richmond)]، وأشارت تقارير القنصلية الأميركية إلى نفس المعنى، مثل ما ورد في تقرير القنصل الأميركي بتاريخ 29 ديسمبر عام 1957 [From American Consulate (Seelye) to Department of State, December 24, 1957.]، وتقريره بتاريخ 29 أكتوبر عام 1959 [From American Consulate (Seelye) to Department of State, October 29, 1959].
محليات
سعاد الصباح تعقّب على ذكريات أحمد الخطيب (الحلقة الاخيرة)
05-08-2007