Ad

إن عدو النفوذ الصيني الأول في باكستان هو حكم الديموقراطية، وحليفها الأقوى هو الحكم الدكتاتوري العسكري، فهما يتحدثان بلغة مشتركة مفهومة، لذلك فإن عودة باكستان إلى الحكم العسكري يحقق نبوءة الصين ومصالحها البعيدة المدى، وليس مستغرباً أن نرى مجدداً، عودة «العلاقات الحميمة» بين بيجين (بكين سابقاً) وإسلام أباد.

ما كادت واشنطن تنتهي من وضع اللمسات الأخيرة على مشروع استيعاب «حرب الحلفاء» بين تركيا والأكراد، حتى فاجأها حليف آخر هو الرئيس الباكستاني برويز مشرف بمشروع حرب أكثر خطورة على المصالح الأميركية، وعلى دول المنطقة من أي أزمة أخرى، فالقرار الذي اتخذه مشرف بـ«الاستفراد» بالسلطة، مستعيناً بالجيش الذي قدّمت له واشنطن عشرة مليارات دولار ثمن اشتراكه في الحرب على الإرهاب إثر كارثة الحادي عشر من سبتمبر، قد أصاب العاصمة الأميركية بفقدان التوازن، في الوقت التي هي في حاجة ماسة إلى إعادة استجماع توازنها للخروج من المأزق العراقي، ولمواجهة الطموح الإيراني. فلماذا أقدم الرئيس الباكستاني على هذه النقلة النوعية متجاهلاً نداءات واشنطن المليئة بالتهديد والوعيد حيناً، وبالترغيب حيناً آخر؟

خبراء الشؤون الباكستانية يجمعون على القول إن مشرف شعر بأن الولايات المتحدة تسعى إلى الإطاحة به في إطار برنامج موضوعي سلس وناعم كجلد الحية، عن طريق تشجيع خصومه التقليديين، بنازير بوتو، ونواز شريف، على العودة إلى الحياة السياسية الباكستانية، تمهيداً لدفع مشرف، خطوة خطوة، إلى خارج إطار السلطة الفاعلة، لذلك سارع إلى توجيه ضربته، وأعاد خلط الأوراق وبتعبير مختصر، فإن مشرف سعى إلى «أكلهم قبل أن يلتهموه».

ما يهم واشنطن وما تريده من باكستان أمران لا ثالث لهما: الأول الاستمرار، بل تكثيف الجهود العسكرية للقضاء على تنظيم القاعدة، مع قتل أو اعتقال أسامة بن لادن، والأمر الثاني أن تضع يدها على مفاتيح الترسانة النووية الباكستانية، بشكل تستطيع معه أن تكون هي صاحبة القرار الأول والأخير في التصرف والتحكم بها. باختصار، فإن الولايات المتحدة تسعى إلى «أمركة» الترسانة النووية الباكستانية بشكل كامل. لم ينجح مشرف، لأسباب يضيق المجال عن ذكرها في هذا المقال، في تحقيق الأمر الأول، أي قتل أو اعتقال أسامة بن لادن، وتدمير «القاعدة» من الجذور. وتتهم أوساط أميركية رسمية بأن مشرف لا يرغب في ذلك، لاعتبارات باكستانية صرفة تتعلق بالتركيبة البشرية لجيشه من ناحية، ولعدم ثقته بأن الولايات المتحدة هي حليفة من درجة ثانية لباكستان، بينما تحتل مركز الحليف الأول للهند، عدوة باكستان اليوم وغداً وبعد غد. ويذكر بعض المحللين الغربيين أن زيارة بوش إلى الهند في العام الماضي، وتوقيعه اتفاقات نووية ثانوية مكملة لترسانتها النووية، قد دقّ ناقوس الخطر في المجتمع العسكري الباكستاني برمته وعلى رأسه الجنرال مشرف الذي لا يستسيغ ارتداء اللباس المدني، ويفضل أن يبقى داخل البزة العسكرية إلى نهاية حياته، يضاف إلى ذلك أن التيار الإسلامي الذي يميل في بعض الأحيان إلى التطرف، يشكل جزءاً لا بأس به من الضباط والجنود، لاسيما الضباط الذين مازالوا يمسكون بالعصب الحساس داخل تنظيمات الفرق العسكرية، والذين رفض مشرف تغييرهم، ولم تنفع معه لا لغة التهديد ولا لهجة الترغيب الأميركيتين.

في الأسبوع الماضي، كشف الصحافي العتيق «أرنو دي بورشغريف» بعض الحقائق المتعلقة بالعلاقة الأميركية–الباكستانية المستحدثة؛ فذكر في حديث له في إحدى الفضائيات أن إدارة الرئيس بوش لم تكن غائبة بشكل كامل عما يجري في الوسطين المدني والعسكري في باكستان، ففي الوسط المدني نصف الشعب الباكستاني، على اختلاف ميوله الحزبية (أي 80 مليوناً من أصل 160)، يتعاطف بدرجة ملموسة مع بن لادن وما يمثله من أيديولوجية إسلامية متطرفة. وقد ازداد هذا التعاطف عندما فشلت الولايات المتحدة بعظمتها وجبروتها في القبض عليه أو قتله. وفي بعض المناطق الباكستانية ذات الحدود المشتركة مع أفغانستان أصبح بن لادن يمثل «ظاهرة سماوية». فهناك، في بعض القبائل الباكستانية، من يجاهر وبصوت مسموع بأن القدرة الإلهية هي التي تحمي بن لادن وجماعته. ويغذي تنظيم «القاعدة» هذه الظاهرة بمختلف الوسائل التي يملكها مادية كانت أم روحية. أما في الإطار العسكري الباكستاني، فإن هذا الصحافي الأميركي العتيق، الذي عاصر مرحلة عبدالناصر وأزماته مع واشنطن، جعل من باكستان حقل اختصاص له بعد الحادي عشر من سبتمبر؛ فإنه أكد أن الأصولية الإسلامية قد ركـّزت أقدامها داخل مختلف الأجهزة الأمنية العسكرية وغير العسكرية، بحيث بات من الصعب القضاء عليها بشكل كامل أو حتى شبه كامل.

أما عن مجال طموح واشنطن في «أمركة» الترسانة النووية الباكستانية فإن «دي بورشغريف» يضم صرخته إلى صرخات غيره من الكتاب والمسؤولين الأميركيين بضرورة تحقيق ذلك، وفي حال الفشل فإن المنطقة سوف تشهد فوضى نووية غير خلّاقة يمكن أن تشكل نواة حرب عالمية ثالثة، تلك الحرب التي تنبأ بها الرئيس بوش منذ أسبوعين خلال حديث له، بين الجد والمزاح، عن خطورة امتلاك إيران السلاح النووي الذي لم ير النور بعد.

«بروس رايدل» المدير السابق لشرق آسيا في مجلس الأمن القومي الذي استقال أخيراً، علق على خطوة مشرف لمجلة «نيوز ويك» في عددها الأخير قائلاً: ليس علينا اليوم أن نفتش عن المكان الذي يمكن أن تحصل منه «القاعدة» على قنبلتها «النووية». هذه القنبلة موجودة في حديقتها الداخلية «باكستان». ويضيف «رايدل»، من دون أن تذكر المجلة الأميركية اسمه، أن احتمال حصول الإسلاميين الأصوليين على تكنولوجيا صناعة القنبلة، أو المواد الضرورية لصناعتها، أو حتى –لا سمح الله– الحصول على قنبلة جاهزة، بات أمراً ممكناً ولو بنسب ضئيلة. إن مجرد التفكير بوجود هذا الاحتمال يزيل النوم من إدارة بوش ومن عيون الأميركيين، وربما عيون العالم كله. وفي مقال نشر على «الإنترنت» ذكر مسؤول أميركي رسمي أن واشنطن تعيش اليوم كابوساً نووياً أكبر بمئة، بل ربما بألف مرة من الكابوس الذي عاشته خلال أزمة الصواريخ السوفييتية لكوبا خلال فترة حكم كنيدي في الستينيات، والفارق بين الأزمتين أن الطرف الآخر، في الأزمة الكوبية، كان معروفاً وهو الاتحاد السوفييتي ورئيسه خروتشوف القابل للحديث وللمساومة، بينما في حال استمرار هذه الأزمة وتصاعدها، فاللاعب في الطرف الآخر عبارة عن شبح يملك قنبلة في أحسن الحالات، وترسانة نووية في أسوأها وغير قابل للحديث ولا المساومة. ولعل الرئيس مشرف الذي أطلقت عليه الصحافة الأميركية لقب «الدكتاتور» يعي هذه الحقيقة المبالغ بها كثيراً، وسوف يستخدمها كورقة قوية في وجه الضغوط الأميركية وربما الروسية والأوروبية للوصول إلى شروطه التي لم يظهر منها اليوم سوى شرط واحد وهو البقاء في سدة الرئاسة وبلباسه العسكري الذي يهواه إلى درجة العبادة.

هناك ورقة أخرى في يد مشرف هي ورقة الصين، فالمعروف تاريخياً أن باكستان تحالفت استراتيجياً مع الصين منذ انفصالها عن الهند، وهي قد أدت دوراً رئيساً في وقوف باكستان على رجليها في مواجهة الهند، والصين لم تتخل إلى الآن عن حليفتها، لأن معطيات الصراع في آسيا لم تتغير في الجوهر، والصين معروفة بالصبر وبطول الأناة، وهي أخفت حنقها على تحالف مشرف مع واشنطن وراء ستار الابتسامة الصينية المعروفة وغير المقروءة، قناعة منها بأن هذا التحالف عمره قصير، وأن البنية السياسية التي ساعدت في بنائها في باكستان منذ بداية النصف الأول من القرن الماضي، لاتزال متينة، وباستطاعتها أن تعود إليها ساعة تشاء. إن عدو النفوذ الصيني الأول في باكستان هو حكم الديموقراطية، كذلك فإن حليفها الأقوى هو الحكم الدكتاتوري العسكري، فهما يتحدثان بلغة مشتركة مفهومة. لذلك فإن عودة باكستان إلى الحكم العسكري يحقق نبوءة الصين ومصالحها البعيدة المدى. ولن يكون مستغرباً أن نرى مجدداً، في حال اتساع الخلاف مع واشنطن، عودة «العلاقات الحميمة» بين بيجين (بكين سابقاً) وإسلام أباد.

في النصف الثاني من القرن الماضي، وتحديداً بعد نكسة أو هزيمة الجيش المصري أمام إسرائيل، والدور الذي أدته واشنطن ولاتزال في تحقيق الحلم الصهيوني قال أحد المفكرين العرب: «ويل للعالم إذا خرج القرار الإسلامي من يد العرب». وقد خرج اليوم بالفعل، وكانت الولايات المتحدة وراء هذا الخروج المأساوي الذي قد يدفع العالم ثمنه الباهظ.

* كاتب لبناني