إن هذا الطفل الفضولي ذا السمع الثقيل، وذا الأسئلة السخيفة والتجارب الأسخف، وذا الدماغ الذي لا يعمل بصورة صحيحة، على حد قول أستاذه في المدرسة، قد تمّ له، بسبب طاقة الفضول والتساؤل، وبفضل المفتاح السحري الذي يسمى «القراءة»، أن يسجّل، خلال حياته، أكثر من ألف وثلاث وتسعين براءة اختراع باسمه، وعند موته، لم يجد مواطنوه وسيلةً لتكريمه أفضل من إطفاء جميع المصابيح الكهربائية في شتى أنحاء أميركا لمدة دقيقة واحدة.في الثانية من عمره، كان يراقب إناث الإوز وهي تجلس على بيضها كل يوم، ليتدفق من تحتها، بعد فترة، عدد من الإوزات الصغيرة الطالعة منفوشة الزغب من داخل قشور البيض المتكسرة، فخطر في باله أنه يمكن أن يفعل مثلها ليصنع إوزات جديدة. لكنه، وا أسفاه، كسر البيض كله حالما جلس فوقه!
وفي سنته الرابعة، كان يتأمل الطيور وهي تحلّق عالياً في السماء، فتساءل عن مصدر تلك الطاقة العجيبة التي تجعلها قادرة على الطيران. وبعد تفكير طويل، توصل إلى أن الطيور تتغذّى عادة على الديدان، ولابد أن يكون غذاؤها هذا هو مصدر طاقتها العجيبة، فما الذي يمنعه من تجريب ذلك «الإكسير» لكي يستطيع أن يطير مثلها؟
وعلى الفور عمد إلى خلط بعض الديدان في قدحين من الماء، وقدم أحدهما إلى صديقته الصغيرة، لكنه وصديقته لم يستطيعا الارتفاع عن الأرض قيد أنملة، بل رقدا على الفراش مريضين لأيام عديدة!
وفي السابعة التحق بالمدرسة، لكنه كان يمضي معظم الوقت شارداً وغارقاً في أحلام اليقظة، حتى إذا وجه إليه المدرس سؤالاً، لم يكن لينتبه إلا بعد وقت طويل من تكرار النداء باسمه بصوت عال، وذلك لأنه ثقيل السمع... وثقيل الأحلام أيضاً، ثم إنه، في النهاية، لا يستطيع الإجابة عن السؤال.
أما نشاطه الملحوظ في الصف فكان معقوداً على عدد هائل من الأسئلة الغريبة والسخيفة والمضحكة، يوجّهها إلى المدرس، حتى ضاق الأخير به ذرعاً، وطلب منه، بعد ثلاثة أشهر من الدراسة، أن ينصرف إلى بيته، قائلاً إنه ليس مؤهّلاً للدراسة، لأن دماغه لا يعمل بصورة صحيحة.
وعندما عاد إلى بيت والده الأمي وأمه المتعلّمة ليخبرهما بقرار المدرس، جرّته أمه، غاضبةً، إلى المدرسة، لتبلغ المدرّس أنه على خطأ، وأن ابنها ذكيٌّ، بل ربما هو أذكى حتى منه شخصيّاً. ثم رجعت به إلى البيت، وانقطع تحصيله المدرسي عند هذا الحد.
بدأت أمه تدُرّسه بنفسها، وكانت هي ووالده سعيدين بمحاولة الإجابة عن جميع أسئلته الغريبة، بل كانا يعجبان جداً بأسئلته، ويشجعانه على طرح كل ما يخطر في باله.
وعندما تمّ لأمه أن تعلمه القراءة تفتحت أمامه عوالم جديدة، فراح يقرأ كل ما تقع عليه عيناه من كتب، وخاض بنفسه غمرات بحار اللغة والأدب والتاريخ والعلوم. وإذ استهوته العلوم بصفة خاصة، راح يغرق نفسه في الكتب العلمية التي كان يجد فيها رواءً لغلّة فضوله الشرس، وموئلاً لتجريب كل ما تضمّه من نظريات، وهادياً له للإضافة إلى المبتكرات التي فيها.
وفي النهاية فإن هذا الطفل الفضولي ذا السمع الثقيل، وذا الأسئلة السخيفة والتجارب الأسخف، وذا الدماغ الذي لا يعمل بصورة صحيحة، على حد قول أستاذه في المدرسة، قد تمّ له، بسبب طاقة الفضول والتساؤل، وبفضل المفتاح السحري الذي يسمى «القراءة»، أن يسجّل، خلال حياته، أكثر من ألف وثلاث وتسعين براءة اختراع باسمه، تضمّنت بعضاً من المخترعات الأكثر أهمية في التاريخ كله، ولايزال عدد اختراعاته رقماً قياسياً لم يبلغه أي مخترع في العالم حتى يومنا هذا!.
إن ذلك الطفل الذي طبع القرن العشرين بنتاج عقله الباهر، سيبقى، على مرّ القرون التالية، ماثلاً في ذاكرة الناس مقروناً بالثناء والامتنان، لفضله في انتشال الحياة من مستنقعات الظلام والبؤس إلى فضاء النور والبهجة.
عند موته، لم يجد مواطنوه وسيلةً لتكريمه أفضل من إطفاء جميع المصابيح الكهربائية في شتى أنحاء أميركا لمدة دقيقة واحدة، اعترافاً بعبقرية مخترعها.
وأحسب أنهم لم يستطيعوا، على الإطلاق، أن يُطفئوا جميع المصابيح في البلاد، حتى لستين ثانية فقط، لأن عدداً من الناس كان سيموت على طاولات العمليات الجراحية، إذا تم إطفاء جميع المصابيح بالفعل... وليس ثمة دليل أوضح وأروع من هذا على أهمية ما قدمه المخترع العظيم «توماس أديسون» للجنس البشري في مشارق الأرض ومغاربها!
وعلى هامش سيرته، لا بد للعربي بالذات أن يتساءل: متى ستعرف أمة «اقرأ» قيمة مفتاح المعجزات الذي أوصاها الله باستخدامه؟
ومتى سيكفّ فيها الآباء والمعلمون والساسة ورجال الدين عن تشغيل «الجن» و«السّعالي» و«الطناطل» و«الفلقات» و«جميع مشتقات البارود» في مؤسسات إرهابهم الرشّيد لطفولة النّاس المفطورين على الفضول وطرح الأسئلة؟!
* تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية