هناك محاولة أخرى يقوم بها بعضهم لإقحام التفسير البشري للنص الديني في إدارة الدولة المدنية، ولاشك أن التنازل الجزئي أمام هؤلاء لن يعني في النهاية سوى الإجهاز على بقايا احترام القانون والمؤسسات، وفرض الوصاية الدينية للجماعة الأقوى نفوذاً التي ستأكل كل ما عداها وربما تعود تلك الفئة نفسها إلى التهام أبنائها.
في كل فرصة تتسنى لهم يرجعون الأمور العامة للدولة، التي حسمتها القوانين، إلى الشأن الديني، ويدخلون الآخرين معهم في تفاصيل لا أول لها ولا آخر. بالنسبة لهم، فالهدف واضح وجلي، لكنه للأسف الشديد «مغبش» عند المختلفين معهم أو خصومهم، إن أردنا الدقة.
الهدف هو الوصول إلى الدولة الدينية بالتدريج خطوة خطوة، وكلما مرت إحدى تلك الخطوات اقتربوا أكثر من الهدف الأساس، وعندما لا تنجح المحاولة -وهذا قليل جداً- نراهم يعاودون الكرّة في أقرب فرصة تتاح أمامهم.
أقول هذا وأنا أرى إقحام الفتاوى في شأن سياسي دستوري بحت كولاية المرأة العامة. الإقحام هذه المرة مفيد في الحالتين: فإما أن يخدم أصحابه في كسب أصوات من تحرجهم تلك الفتاوى، وذلك هو الهدف المباشر، وإما أن يكونوا قد سجلوا سابقة اخترقوا فيها قوانين الدولة وهمشوا دستورها لمصلحة تفسيراتهم الدينية وليس الدين.
مجلس الأمة وكل ما يدور في داخله تنظمه اللائحة الداخلية والدستور ولا شيء آخر على الإطلاق، ومن قَبِل المنافسة لعضوية المجلس يعلم ذلك جيداً وبالتالي لا مجال لإقحام فتاوى رجال الدين في شأن سياسي بحت. فعضوية مجلس الأمة لم تفرض على أحد قسراً أو عنوة، بل وصل من وصل عن طريق قانون انتخابي وضعي ومارس دوره في المجلس قابلاً بالقوانين واللوائح كلها والدستور الوضعي وأقسم على الالتزام به، فلماذا إذن يقحم هؤلاء الشأن الديني في سلوكهم السياسي البرلماني؟
الفتاوى هي رأي لشخص ملم بالجوانب الشرعية يأتي رداً على سؤال من فرد أو جماعة يتعلق بما يمكن أن يؤثم السائل إن هو فعل، وحساب الإثم وفي مقابله الثواب، أمران لا يدخلان في اختصاص البشر لذا يُسأل الفقهاء كي يتجنب البشر ما يمكن أن يؤثمهم كأشخاص، وفي ضوء تعدد الفتاوى وكثرتها يبقى القرار النهائي لكل فرد منهم أن يأخذ برأي من دون غيره إذا ما اختلف الفقهاء، واختياره هو ما سيؤثر في حساب السيئات والحسنات.
أما في السياسة وفي مجلس الأمة، على وجه الخصوص، وفي مسألة طرح الثقة تحديداً فالأمر لا يتعدى كونه قراراً لكل نائب حسب قناعاته السياسية وموقف كتلته إن كان منتمياً إلى إحدى الكتل، وحسب تقييمه للاستجواب، لا أكثر ولا أقل. أي في عبارة أخرى: سينقسم الأعضاء إلى مع أو ضد أو ممتنع وليس إلى كافر ومؤمن.
أما بالنسبة لمن يقول إن الرأي الشرعي هو ما يملي عليه قراره في هذا الشأن السياسي، فعليه أن ينسجم مع نفسه ومع قناعاته الدينية والشرعية ويقرر ما إذا كان عليه الاستمرار في عضوية مجلس الأمة «المخالف للشرع والدين»!! ويكون الخيار ليس في التصويت مع الوزيرة أو ضدها أو الامتناع، بل هو في أن يستمر في عضويته أو يستقيل.
ولكن لمعرفتي بالانتهازية السياسية لكثير من هؤلاء، فإن أحداً منهم لن يجرؤ على الاستقالة إطلاقاً وسيجد من يخرج له ذلك إخراجاً دينياً يبرر موقفه في الحالتين، لكنه سيفلت من شجاعة اتخاذ أي من القرارين سواء بالتصويت على طرح الثقة أو الاستقالة من عضوية مجلس الأمة.
لذا أقول إن الأمر لا يتعدى كونه محاولة أخرى لإقحام التفسير البشري للنص الديني في إدارة الدولة المدنية، والتنازل الجزئي أمام هؤلاء لن يعني في النهاية سوى الإجهاز على بقايا احترام القانون والمؤسسات، وفرض الوصاية الدينية للجماعة الأقوى نفوذاً التي ستأكل كل ما عداها وربما تعود تلك الفئة إلى التهام أبنائها، كما علمتنا تجارب أفغانستان «طالبان»، وإيران الملالي، وسودان النميري (وتحالف الترابي البشير في بداية «ثورة الإنقاذ») وباكستان ضياء الحق وإمارة الإسلام في العراق و«حماس» في غزة. فالقاسم المشترك بين تلك التجارب جميعها للدولة الدينية أن الفئة الحاكمة لا تقبل بأي رأي آخر يخالفها، وأول قراراتها هو البدء في التخلص من (الليبراليين والعلمانيين والقوميين والملحدين واليساريين والكفرة وغيرها من تسميات خصومهم) ثم تعود لتأكل أبناءها من القوى الدينية الأخرى وصولاً إلى أبناء التنظيم أو الجماعة الدينية نفسها.
إن ترك هؤلاء وشأنهم يعيثون في البلاد ويعيدونها إلى تسلط الدولة الدينية، وكأن ما يفعلون لا يعنينا شيئاً، سيؤدي إلى نتيجة حتمية؛ وهي فقدان مشروع الدولة المدنية (المتعثر) إلى دولة التفسير البشري للنصوص الدينية وتصفية (كل خصوم «الدين»). وسيأتي يوم يتذكر فيه غير المبالين اليوم أنهم إنما «أُكلوا عندما أُكل الثور الأبيض»، وسيعلم المتصرفون على طريقة جحا أن من دخل القرية سينتهي به الأمر وهو يدخل ديارهم وهم مختبئون ويأتي عليهم واحداً تلو الآخر. ألا هل بلغت؟