عاشت في العراق أديان وطوائف وإثنيات ومذاهب عديدة متقاربة ومتباعدة أحياناً، لكن الجميع حافظ على قدر من الاحترام الضروري لاسيما من خلال الاختلاط والتعايش المشترك والإنساني، ولم يكن يدر في خلد من هم «أغلبية» إلغاء الآخرين أو إقصاؤهم، مثلما لم يكن يخطر ببال «الأقلية» الانصياع والخضوع، فقد كان التنوّع مصدر غنىً وإثراءً، ولم يكن في الأغلب الأعم مصدر توتر واحتقان، وكما يُقال: العبرة بالغالب الشائع وليس بالنادر الضائع، فالموازييك العراقي زاخر بكل الألوان!

Ad

وكانت الكثير من المدن العراقية الرئيسة تحفل بالتنوّع الديني والمذهبي والطائفي والإثني، تلك التي خلقت لوحة فسيفسائية عراقية قومية وسلالية ولغوية ودينية وطائفية، وإن كان العرب والمسلمون عماد هوية المجتمع العراقي تاريخياً، وهي الهوية التي طبعت الدولة العراقية منذ تأسيسها في العام 1921، إلاّ أن الخصوصيات القومية والدينية، كانت متعايشة مع الهوية العربية-الإسلامية، في إطار الاحترام المتبادل والمشترك الإنساني والثقافي!

كان إلى جانب العرب، الكرد والتركمان والكلدانيون–الآشوريون وأقليات أخرى وإلى جانب المسلمين كان المسيحيون والصابئة المندائيون والأزيديون وغيرهم، واختلط الصابئة المندائيون بالمسلمين الشيعة في مدن جنوب العراق وأهواره، وكانت المدن العراقية الكبرى «ولايات الدولة العثمانية وقبلها الدولة العباسية الثلاث لأرض الرافدين» بغداد والبصرة والموصل مختلطة الأديان والمذاهب والإثنيات أحياناً، وكان أصحاب الديانات المختلفة يحتفلون بالأعياد والمناسبات العامة والخاصة في فسحة من التسامح تضيق أو تتسع، لكنها كانت تتعايش ويتم الاعتراف بالتنوّع والاختلاف والتمايز!

لكن خريطة العراق الدينية والطائفية رغم غناها تعرضت إلى التصدّع أحياناً، فقد حدث الأمر على شكل موجات سياسية، فبعد قيام إسرائيل عام 1948 وتشريد عرب فلسطين واندلاع الصراع العربي-الإسرائيلي، صدر القرار رقم واحد العام 1950 القاضي بإسقاط الجنسية عن اليهود أو تسهيل مهمة تهجيرهم، الأمر الذي رفد إسرائيل بالعنصر البشري وأفقد العراق كفاءات وخبرات!

لقد تعايش العراقيون من دون منازعات تُذكر بين المسلمين والمسيحيين واليهود أو غيرهم من الأديان أو بين العرب والكرد أو التركمان أو بين السنّة والشيعة، باستثناء بعض التوترات التي يعيشها أي مجتمع، وهي المسألة التي اتخذت طابع حملات تهجير وإن كانت محدودة ما قبل العام 1980 لبعض عرب العراق بزعم أن أصول بعضهم إيرانية، لكن الأمر اشتد على نحو كبير عشية الحرب العراقية-الإيرانية وما بعدها.

وشملت بعض الإجراءات حملة لتغيير معالم التركيبة السكانية «الديموغرافية» لمحافظة كركوك بصدور قرارات تفضيلية لاستبدال القومية إلى العربية ومنح بعض الامتيازات على حساب التركمان والكرد منذ السبعينيات، واعتبرت إحصاءات حكومية أن أصل الأزيديين عربٌ وكذلك الصابئة المندائيون، في حين أن هناك إشارات إلى أن لغة الأزيديين القديمة كانت الكردية ولغة الصابئة القديمة كانت الآرامية.

ورغم تلك المحاولات المحمومة ذات الطابع المؤدلج فإن العراقيين تعايشوا وتضامنوا في ما بينهم ولم نسمع أن مسلماً قتل مسيحياً لأنه من دين آخر، كما لم نقرأ أن عربياً اعتدى على كردي أوتركماني أو كلداني أو أرمني لأنه من عنصر آخر، ولم يسجل التاريخ أن سنياً قتل شيعياً أو العكس بسبب اختلاف المذهب، وإن كان الأمر لا يخلو من حساسيات ومناكفات وتجاوزات أحياناً، إلاً أن خط التعايش كان الأوثق والمشترك الإنساني كان الأكثر حميمية، ولم تقف بعض الحوادث الفردية الإغراضية عائقاً أمام تطوير هوية عراقية جامعة.

التعايش والمصير المشترك الذي بدا عنصر قوة تاريخياً أصبح عنصر ضعف وتوتر خلال اندلاع موجات العنف والتطهير المذهبي والإثني لاسيما بعد احتلال العراق 2003، وبالطبع فإن أبناء الديانات الأخرى غير الإسلامية وقع عليهم الاضطهاد مزدوجاً، فإضافة إلى العنف الذي يعانيه كل العراقيين، فهناك عنف مقصود لحق بالمسيحيين والأزيديين والصابئة على يد متطرفين ومتعصبين، مثلما لحق عنف بالسنّة مضاعفاً ومنفلتاً من عقاله، خصوصاً بعد تفجير مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري «فبراير 2006».

وتعرضت الكنائس المسيحية لاسيما في بغداد وكركوك إلى تفجيرات كما تعرّض المسيحيون فيها وفي البصرة والموصل إلى ضغوط شتى، حين جرت محاولات لإجبار النساء على ارتداء الحجاب أو قتل رجال الدين أو إغلاق الكنائس أو صدور فتاوى زائفة من بعض رجال الدين المتأسلمين لإجبار المسيحيين على دفع الجزية 250 دولاراً شهرياً مقابل السماح لهم بالبقاء في بيوتهم لكونهم من أهل الذمة، أو عليهم إشهار إسلامهم.

كما استهدف التكفيريون والمتعصبون، الصابئة، لدرجة أن الكثير منهم هرب إلى الخارج وبلغ عدد القتلى 504 أشخاص وتم اختطاف 118 شخصاً قسم منهم دفع الفدية وأطلق سراحه وغادر إلى الخارج. وفي مدينة لوند السويدية وحدها يوجد مئات من اللاجئين وتسنّى لي في أواخر التسعينيات أن ألقيت محاضرة هناك واطلعت على أوضاعهم الصعبة، رغم أن بعضهم أسس حياة جديدة وزاول مهنة الآباء «صياغة الذهب» التي يشتهرون بها!

أما الأزيديون فقد تعرضوا إلى هجمات شرسة خصوصاً وقد استهدفت مراكزهم الدينية والثقافية والاجتماعية، ناهيكم عن تهديدات تطالبهم بتغيير دينهم، وخلال عام 2007 وحده أشعلت النار في معبد لالش المقدس لديهم «شمال العراق–كردستان» وتعرضت منطقتا القحطانية والعدنانية التابعتان إلى قضاء سنجار لتفجيرات مرعبة راح ضحيتها أكثر من 200 قتيل وجرح نحو 850، كما تم هدم 30 منزلاً، ومازال الأزيديون يعانون ضياع بطاقتهم التموينية، فالحكومة المركزية تعتبر حصتهم التموينية ضمن إقليم كردستان، بينما تعتبر حكومة الإقليم أن حصتهم من الحكومة.

وعانى التركمان معاناة مزدوجة أولاً بسبب الصراع على كركوك وموضوع تطبيق المادة 140، كما تعرضوا إلى أعمال تفجير عدة مرات خصوصاً في منطقة كركوك التي يختلط فيها العنف الإثني بالطائفي في حين كان يتعايش فيها العرب والتركمان والكرد إضافة إلى المسلمين السنّة والشيعة والمسيحيين على حد سواء، وكذلك منطقة تلعفر التابعة لمحافظة الموصل.

إن الاعتراف بالخصوصية والإقرار بالتنوّع والتعددية وحق الاختلاف والتمايز سيكون طريقاً سالكاً لاستعادة الهوية الوطنية العراقية الجامعة التي لا يمكن فرضها بالإكراه أو بإلغاء الآخر بل بالاعتراف بالحقوق لاسيما حق المواطنة والمساواة التامة، تلك التي تحتاج إلى التراكم والثقافة الحقوقية والتنشئة الوطنية السليمة، العابرة للأديان والطوائف والمذاهب والإثنيات!!

* كاتب ومفكر عربي