Ad

ربما لم يرتبط أي من المخطوطات الإسلامية المصورة بأحد من الملوك بمثل ما ارتبطت هذه النسخة المخطوطة والمصورة من كتاب الفال نامة بحياة وأفكار الشاه طهماسب.

خلف هذا الشاه المحب للفنون على العرش والده الشاه إسماعيل الصفوي وأنفق السنوات الأولى من حكمه متمتعاً بإنجازات أبيه الحربية، ومتفرغاً لعناية بذلها بسخاء للخطاطين والمصورين، واشتهر في بلاطه من المصورين الموهوبين عدد كبير.

وبعد نحو 13 عاماً من تفرده بالحكم، وكان آنذاك في السابعة والثلاثين من العمر، بدأ حماس الشاه طهماسب للخطاطين والمصورين يفتر بصورة ملحوظة، وبحلول عام 1459م أخذ المصورون يغادرون البلاط الصفوي للعمل في بلاط مغول الهند، حيث تبذل الأموال بسخاء وما ان أهل عام 1556م حتى كان طهماسب قد كره التصوير بالكلية، وأصدر مرسوماً يعلن فيه توبته الصادقة وتحريمه للفنون الدنيوية في الدولة الصفوية.

كان الشاه يمر بمرحلة من التطور الفكري والنضج السياسي رأى معها أن ينبذ ترف البلاط ليهتم بشؤون رعاياه، وبدأ في مطالعة الكتب الدينية التي أثرت في أفكاره بقوة.

وفي طليعة هذه الكتب كان كتاب الفال نامة، الذي أنتجت منه هذه النسخة، ليطالعها الشاه في عام 1550م، وحرص فنان البلاط ونديم الشاه طهماسب، وهو المصور أقاميرك على أن يزوده بتصاوير توضيحية أنجز بعضها بريشته والبعض الآخر بريشة المصور عبد العزيز أو آخر من تلاميذ أقاميرك، وللمفارقة كانت هذه المخطوطة بتصاويرها الرائعة سبباً مع مخطوطات أخرى بالتأكيد، في كراهية طهماسب للتصوير.

و«الفال نامة» أو كتاب النبوءات، نص فارسي ينسب تقليدياً إلى الإمام الشيعي جعفر الصادق، وتدور مادته حول التفاؤل والتشاؤم وإعطاء المشورة بشأنهما، وإمكان التنبؤ بنذر النحس وقلة الخير.

من ذلك أن الذي تشير حالته إلى كثرة الأحزان ينصح بعدم السفر أو الدخول في عمليات الشراء والبيع أو إبرام العقود من أي نوع، وأن يكثر في ذات الوقت من أعمال البر والإحسان وألا يهمل ذكر الله، ويجب عليه أيضاً أن يؤدي الصلوات المفروضة، وأن يضيء الشموع والمصابيح عند المراقد المقدسة في ليالي الاثنين والجمع.

ويبدو من روعة خط النستعليق، الذي دون به هذا المخطوط، ودقة الصور وجمالها أن طهماسب كان دائم الإطلاع على مادة «الفال نامة».

ويحتفظ متحف الفن والتاريخ في جنيف بعدد من صفحات هذا المخطوط، والذي تتميز صوره بكبر حجمها قياساً بالتصاوير التي كانت تذوق بها المخطوطات الإسلامية.

ومن هذه الصور الرائعة واحدة من عمل الفنان أماميرك توضح موت الملك الفارس دارا ومواساة الإسكندر الأكبر له وهو في النزع الأخير. وتتسع مقدمة الصورة لتتسع لعدد كبير من الأشخاص الذين اصطفوا على هيئة دائرة بوسطها الملك دارا، وهو يستند برأسه الى فخذ الإسكندر الأكبر، بينما يحاول خادم افاقة دارا بقنينة أو ققم عطري، وفي الوقت الذي يدعو فيه رجلان إلى يمين الصورة نجد شخصاً ثالثاً في يسارها وقدر من عمامته على الأرض جزعاً، وقد شرع في شق ثيابه تعبيراً عن حزنه لقرب وفاة مليكه.

وبوسط الصورة منجم يمسك اسطرلابا يطالع به فأي الإسكندر قبيل وفاته ويقوم بإملاء بعض المعلومات لكاتب يجلس إلى جواره.

والمنظر كله يبدو كما لو كان يجري على أرض حديقة بها نباتات وشجرة واحدة مورقة وخلفها مباشرة صخور جبلية. أما خلفية الصورة التي لونت باللون الذهبي فقد رسمت بها بعض الخيول التي كانت لدارا، حيث يبكي سائسها ويكفف دموعه بمنديل أحمر، بينما يقوم بعض جنود الإسكندر بتنفيذ حكم الإعدام شنقاً بحق اثنين من قواد الفرس.

ورغم أجواء الحزن، التي ينبغي أن يبثها موضوع الصورة، فإن ألوانها جاءت زاهية حافلة بالرسوم النباتية والزخارف الدقيقة التي تزدان بها الملابس.

وتتضح في هذه الصورة قدرات أقاميرك على تجسيد الواقع، وما يجري في مثل هذه المناسبات في تلك الفترة كالبكاء والدعاء وشق الجيوب، وأيضاً موهبته في رسم ملامح الأشخاص والتمييز بينها بدقة لافتة للنظر.

وفي صورة أخرى من عمل أقاميرك نجد منظراً يحوي عدداً من الأشخاص داخل قاعة في أحد القصور أو ربما في أحد المساجد.

ويبدو موضوع الصورة غامضاً إذ لدينا ستة من الرجال على جانبي مقدمة الصورة يرفعون أيديهم بالدعاء، بينما يجثو أحزان على الأرض في هيئة من يبحث عن شيء ما، ولكن اللافت للنظر هو الجزء الأعلى من الصورة والذي يبدأ بشمعدان في الوسك حول مقاعد بسيطة يتقدمها كرسي للمصحف ثم تكوين زخرفي لقدمين ضخمين على جانبي كرسي المصحف.

ويعتقد عدد من مؤرخي الفن أن منظر القدمين من أكثر الصور الدينية تأثيراً في الفن الإسلامي، إذ يرمز القدمان إلى النعال الشريفة الخاصة بالرسول، صلى الله عليه وسلم، وأن لهما قيمة خاصة لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قام بلمسهما في قمة العرش الإلهي أثناء رحلته في الاسراء والمعراج.

والصورة في مجملها حافلة بالزخارف وتعكس حرص أقاميرك على التماثل الشديد بين أقسام الصورة وطريقة توزيع الأشخاص فيها، وقد أصاب ذلك بشيء كبير من الضرر حيوية أشخاصها.

ومن الصور التي أنجزها عبد العزيز تحت إشراف أقاميرك تصويرة تمثل رجلاً له لحية رمادية يحاول ترويض جمل، بينما يجثو شخص في مقدمة الصورة على ركبتيه وهو يناشده ألا يفعل لأسباب متعلقة بفأل الجمل، حيث قام عبد العزيز بإبراز أهميته أو قداسته برسم مشعلة النار المقدسة حول سنامه. وقد رسمت خلفية الصورة، التي من المفترض أن تمثل السماء باللون الذهبي وبها عدد من الأشخاص يرقبون، ما يجري بين الرجل ذي اللحية الرمادية والجمل من وراء صخرة تنبت فيها شجرة خضراء. ومن اللافت للنظر هنا أن عبد العزيز رسم بعضاً من السحب الصينية التي ترى بكثافة في الأعمال الفنية المنتجة في الصين.

وقد يشارك أقاميرك وعبد العزيز في إنجاز صور لأحد المناظر المفترض أن تدور حول الكعبة المشرفة. وهي واحدة من الصور التي تمتاز بتعقد كبير في تصميمها مع التنوع الشديد في رسوم الأشخاص سواء من ناحية الأفعال التي يقومون بها أو اختلاف الأزياء التي يرتدونها أو حتى من جهة السجن والملامح الشخصية المميزة.

وتبدو الكعبة هنا كما تخيلها أقاميرك بناء من حجر له أستار وباب وتعلوها قبة حولها النار المقدسة، وقد احيطت ببوائك من أعمدة تحمل عقوداً فارسية مدببة وبأركانها أربع من المآذن، وقد اعتلى مؤذنان شرفتي الآذان في المئذنتين الأقرب، بينما يقف مجموعة من الأشخاص في خلفية الصورة وهم يرفعون أيديهم بالدعاء، وقد رسم هؤلاء على خلفية لونت باللون الأزرق الداكن ربما في إشارة إلى أن الأحداث التي تجسدها الصورة إنما تجرى بالليل.

وفي بوائك الكعبة عدد من الأشخاص يقومون بأفعال ذات صلة باستطلاع الفأل أو محاولة معرفته فأمام أحدهم مقص ومظروف ورقي ودوارة ومحبرة، ويقوم آخر بتحريك مسبحة في يده وأمامه مظروف ورقي، بينما يجثو ثالث على ركبتيه مستغرقاً في تفكير عميق ويرقب شخصين إلى يمين الصورة ما يقوم به هؤلاء من أفعال.

أما الكعبة فأمامها درويش يطرق بابها وجملة من الأشخاص بهيئة الطواف والدعاء حولها، بينما يسجد شخص في مقدمة الصورة وينهمك اثنان جلوساً في تجاذب أطراف الحديث.

ويومئ أقاميرك في هذه الصورة إلى حقيقة اختلاف الأجناس داخل الحرم المكي، وذلك عن طريق إبراز الاختلافات بين أغطية الرؤوس، فهناك عدة أنواع مختلفة من العمامات والتي يبدو أنها كانت ذات دلالات جغرافية وإقليمية على هوية أصحابها، بل وأيضاً أغطية الرأس التي اشتهرت بها عناصر المغول وأدرابهم من سكان الشرق الآسيوي الأقصى.

ورغم الاعتراف بأن هذه الصورة من «الفال نامة» لا تلتزم بقواعد المنظور مثلما أهملت فيه مراعاة أبسط قواعد التشريح والعناية بالنسب بين أجزاء الجسم فانها تتميز بحركة وحيوية دافقة بفضل تنوع حركات الأشخاص وتباين الالتفاتات وحركات الأيدي، فضلاً عن محاولة أقاميرك وعبد العزيز التمييز بإخلاص ودأب بين ملامح الأشخاص وهيئات اللحى وألوانها.

وتبقى هذه النسخة الفريدة من «الفال نامة» علامة بارزة ليس فقط في مجال دراسات التصوير الإسلامي، بل وأيضاً على صعيد اكتشاف الأبعاد الإنسانية لحكام الشرق الإسلامي وتقلبات حياتهم الشخصية والسياسية.