لا تكاد تكون لدينا ثقافة بالمعنى المعياري للكلمة، أي ثقافة رفيعة المستوى، تتمتع بطاقة ابتكارية عالية للصور والأشكال والنظام. بالمعنى الأول؛ الثقافة موجودة لدى الشعوب جميعها مهما تكن بدائية، هي اختلاف محض، لكن الثقافة كحضارة وارتقاء وإبداع للأشكال ليست سمة إلا بعض الثقافات الحديثة، ثقافتنا ليست منها بكل أسف.1 - تناولت مقالات سابقة لكاتب هذه السطور مشكلات ثلاث كبرى للعرب المعاصرين: مشكلة الدولة، مشكلة الدين، والمشكلة الغربية، ولم يكن اختيار كلمة مشكلات بدل كلمة مسائل اعتباطياً أو مزاجياً، إن التمييز بين الكلمتين يضعنا في قلب مشكلة عربية رابعة هي المشكلة الثقافية، ولا نقصد بالمشكلة واقعاً صعباً أو وضعاً متعسراً يتعذر التحكم به، نقصد بالأحرى التقاء صعوبة واقعية مع تشوش فكرتنا عنها أو عجزنا عن تكوين صورة واضحة لها. نتحدث عن مشكلة الدولة لا لأننا نواجه صعوبة في التحكم بهذا الكائن المنفلت الذي اسمه الدولة، إنما كذلك لأن إدراكنا لهذا الكائن مختلط ومضطرب وبلا نظام، مثل ذلك يصح على الدين، وعلى الغرب.
تجدنا لذلك نتقلب بين موقفين أقصيين من هذه الكائنات/القوى الثلاث، موقف الولاء والتعبد، وموقف العداء والإنكار، ويوحد الموقفين أرجحية العنصر الشعوري فيهما على العنصر العقلي، مما يشير إلى أننا منفعلون حيال تلك القوى، وغير قادرين على تنظيمها إدراكياً، ومن ثم ضبطها عملياً، ولما كنا ندرك الأشياء بالصور أو الأشكال الذهنية، فإن التشوش يعني أن تلك الكائنات/القوى مختلة الشكل أو مشوهة أو لا شكل لها. هي مشكلات لذلك نفسه، يتعذر تكوين تصور منظم وواضح لها، وتكون مفاهيمنا عنها مضطربة وغير مجدية.
لمفهوم المشكلة إذاً مكونان: مكون واقعي يتمثل في وضع مربك يصعب التحكم به، ومكون عقلي يتمثل في تشوش صورته أو شكله في أذهاننا، وما نريد الخلوص إليه هو أن ما لا شكل له مشكلة، أما ما له شكل فمسألة، أي صعوبة عملية لكن من دون مشكلة إدراكية (أو ثقافية). الدولة والدين والغرب مشكلات لأننا لا نعرف كيف نتعامل معها ولما نتمكن من ضبطها وتنظيم إدراكها، وتحويلها من ثم إلى مسائل، ولو نجحنا في ذلك لكان حل هذه المسائل صار شأناً عملياً، أعني قضية جهد ووقت. في حالها اليوم هي لا تقبل الحل لأنها مشكلات، كائنات/قوى بلا شكل، من شأن العمل على حلها ربما أن يزيدها تعقيداً وفقداناً للشكل، فالمشكلات لا تقبل الحل، ما يقبل الحل هو المسائل.
2 - توحي السطور السابقة بأنه يتعين أولا صوغ المشكلات في مسائل قبل التفكير في حلها، قد يبدو هذا الطرح صورياً أو شكلياً، هو كذلك، الغرض منه التبسيط والتوضيح. في الحياة الواقعية نرجح أن صنع المسائل من المشكلات، وبلورة حلول عملية لها وجهان لعملية واحدة، عملية النهوض الثقافي أو التحضر. وهذه فاعلية تشكيلية وتنظيمية وتحويلية، نظهر قصوراً شديداً عن حيازتها.
ونتكلم على مشكلة ثقافية عربية بالضبط لتوفير اسم جامع لتعثر عملية صنع الصور والتصورات المنظمة وصوغ المسائل الواضحة، مشكلاتنا الأخرى تتعقد وتزداد امتناعا على المعالجة لأن الثقافة، في وصفها فاعلية إنتاج الأشكال والصور والإدراك المنظم، التصورات والمفاهيم، معاقة أو ضامرة. نعم، لدينا ثقافة بالمعنى «الانثروبولوجي» للكلمة، أي تشكيلات من العلامات والقيم والرموز المعطاة تاريخياً، التي تميزنا عن غيرنا، لكن لا تكاد تكون لدينا ثقافة بالمعنى المعياري للكلمة، أي ثقافة رفيعة المستوى، تتمتع بطاقة ابتكارية عالية للصور والأشكال والنظام. بالمعنى الأول؛ الثقافة موجودة لدى الشعوب جميعها مهما تكن بدائية، هي اختلاف محض، لكن الثقافة كحضارة وارتقاء وإبداع للأشكال ليست سمة إلا بعض الثقافات الحديثة، ثقافتنا ليست منها بكل أسف.
3 - تبدو الثقافة كإنتاج للأشكال وتنظيم للمشكلات قريبة من تصور الفيلسوف الألماني كانط لـ«الحساسية المتعالية»، خصوصا اعتباره مقولات الزمان والمكان والسببية والنسبة... أشكالا يضفيها العقل على الظواهر فيتمكن من إدراكها وتنظيمها. بلغة أقل تجريداً وميتافيزيقية نفضل التكلم عن الثقافة. الثقافة هي «الحساسية المتعالية» (على مداركنا الفردية) التي تشكل إدراكنا للعالم وظواهره، والمشكلات ليست أوضاعاً واقعية حصل أن تجردت من الأشكال أو تشوهت أشكالها؛ إنها علامات قصور ثقافي لأن الثقافة هي وحدها ما تنتج الأشكال والصور، وتنظم المدارك، لذلك المسائل لا توجد في «الطبيعة»، توجد في الثقافة فقط. ما يوجد في الطبيعة هو قوى خام غير منظمة، مشكلات، كائنات لا شكل لها أو مشوهة الأشكال، أي بالضبط: أشباح، مسوخ، غيلان، جن وعفاريت. رأى ماكس فيبر أن الحداثة «نزعت السحر عن وجه العالم». أفقدته أسراره وأشباحه وغرابته... ولم تلبث بعد حين (نيتشه) أن أعلنت موت إلهه. وضعت «العالم» أمام التلسكوب أو تحت المجهر أو في زجاجات أو أنابيب اختبار، وانكبت عليه تفحصه و«تقتله بحثا». ضبطته في أشكال وصور وأطر ومفاهيم وقماقم. قيدته إلى درجة تتجاوز حلم أقوى السحرة، وحبسته في قماقم من شأن فتحها أن يدمر الأرض كلها، ما يتجاوز مخيلة ملوك الجان جميعاً. وكانت عبارة «قانون علمي» تعكس مطمح العلم إلى تقييد العالم والسيطرة عليه.
في ثقافتنا لم تُجرَّ هذه العملية بصورة متسقة. لم يُكتمل نزع سحر، ولا تم تقييد كائنات شبحية، ولم تمت آلهة. أكثر من ذلك يبدو أن تفتح الحداثة الغربية، ولأسباب سياسية وثقافية وتاريخية مستمرة (الغرب «آخرنا»)، يقترن لدينا بحداثة مشوهة أو معاقة، لا هي قدامتنا «الأصيلة» ولا هي انخراط مسترخ في حداثة الغرب ولا هي مشاركة إيجابية في صنع حداثة عالمية متعددة الوجوه. هي حداثة مضطربة، لا شكل لها بدورها، مشكلة. ولعله لذلك ثقافتنا لا تنتج الأشكال، فلا تصوغ المسائل، ولا تبتكر الحلول.
4 - هل مشكلتنا الدينية هي سبب مشكلتنا الثقافية؟ نميل إلى إجابة سلبية. منذ القرن التاسع عشر انخرطنا في نظام سياسي وحضاري عالمي يهيمن عليه الغرب، يحصل أن يسمى الحداثة أيضا. لم يبق منا شيء خارجها، لدينا مشكلة دينية بالتأكيد، لكن الدين لم يعد أولياً، شيئاً يشبه ذاته فقط، لا يختلط بغيره أو يتفاعل مع غيره، الإسلام اليوم، ومهما يكن رأي الإسلاميين، نتاج الحداثة وتفاعلنا معها أكثر مما هو نتاج تاريخه الذاتي «الأصيل». وهو تالياً متأثر بتشوهنا الحضاري والثقافي أكثر مما هو سبب أولي له.
ويبدو الإسلام موطناً لكل ما هو لا حداثي في ثقافتنا لأن السحر الذي لم ينجل والأشباح التي لما تقيد وجيوش الجن التي لم تهزم... وجدت فيها ملاذاً. أكثر من الجميع اليوم، الإسلام نفسه فاقد شكله، مشكلة. فلا هو دين فحسب. ولا هو نظام أخلاقي، ولا هو هوية، ولا هو نظام دولة، ولا هو أمة، ولا حزب سياسي. إنه كل ذلك معاً، يقول الإسلاميون. لكن هذا نفسه هو معنى أن لا شكل له. أشبه بجراب فيه كل شيء، فلم يعد له شكل منتظم. بلى، ليس الإسلام سبب مشكلتنا الثقافية، لكن كذلك لا يملك من الأشكال والصور ما يتيح تنظيمها ومن ثم حلها. هو نفسه بلا شكل، وتاليا مشكلة اليوم.
5 - يبقى أن مقياس «أصالة» ثقافتنا، أو إبداعيتها، هو مشكلاتها لا مسائلها، شعورها المشوش لا عقلها المنظم، محسوسها الخام لا معقولها الصوري، أشباحها وغيلانها وعفاريتها المشاغبون لا ملائكتها المطيعون المنضبطون. قول هذا ضروري لأنه يحصل أن نستوفد مسائل أو أشكالا جاهزة، دونما مرور بمشكلاتنا ومن دون صنع الأشكال التي تحولها إلى مسائل. والكلام على مشكلاتـ«نا» هنا لا يحيل إلى هوية، إلى «نحن» خفية متماثلة مع ذاتها من وراء تبدل الأزمنة، بل إلى أوضاع تاريخية مختلفة، واختلافها هو هويتها هي، وإنكار الاختلاف ينكر التاريخ أكثر مما ينكر «هويتنا».
المسائل تتنقل من ثقافة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر من عصور الثقافة نفسها، أما المشكلات فلا تنتقل. ولا ينتقل بالخصوص صنع الأشكال، فاعلية إنتاج التصورات والمفاهيم.
* كاتب سوري