حوَّل المثقفون بعضها إلى منتديات أدبية يومية مقاهي القاهرة... عناق التاريخ والثقافة
لا يمكن أن تزور القاهرة من دون أن تطأ قدماك مقاهيها المشهورة التي خلّدتها الدراما المصرية وحفرت في إبداعات الكثير من الأدباء العرب، حتى أن أديب نوبل التركي أورهان باموق لم يترك القاهرة من دون أن يشارك مثقفيها ارتياد مقاهي «وسط البلد». يبقى بعض أسماء المقاهي شامخاً خالداً في روايات الأدباء مثل نجيب محفوظ وكان من أشهر رواد مقاهي «ريش» و»الفيشاوي» و»قشتمر» وغيرها إذ تحوّل بعضها إلى منتديات للثقافة بفعل ارتيادها من قبل المثقفين.
برزت ظاهرة المقاهي الثقافية منذ عشرات السنين وكان اشهر هذه المقاهي «متاتيا» في ميدان العتبة حيث انطلقت منه الدعوة إلى التجديد والإصلاح التي قادها المفكر جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده. إلا ان المقهى هُدم وبقيت ذكراه بينما وجد المثقفون لأنفسهم مقاهي بديلة حولوها من مقاه عادية إلى ندوات ثقافية يومية.يقع مقهى «زهرة البستان» في ممر مجاور لمقهى «ريش» المشهور وحاول المثقفون من خلاله استنساخ مقهى أرخص من «ريش» من غير أن يفقدوا جو المكان. بالفعل تحول المثقفون إلى «زهرة البستان» حيث يتبادلون الآراء ويناقشون ويعقدون الندوات، فضلاً عن إقامة الأفراح والمآتم.يقول الرسام الدكتور خلف طايع إن «زهرة البستان» ملتقى الفنانين والأدباء الشباب منذ ستة أعوام، يشاركهم فيها من يريد من الناس فليست الزهرة، كما يطلق عليها المثقفون، خاصة بالمثقفين وحدهم، لا سيما أن أسعارها متدنية، ما يسمح لجميع الطبقات بارتيادها، على عكس «ريش» وهي للأغنياء فحسب. يضيف طايع إن مقاهي المثقفين يشاركهم فيها الذين يدعون الثقافة والموهبة في مختلف المجالات، حتى أنك تجد من لا يتمتع بالموهبة في الشعر مثلاً يدعي أنه شاعر لا لشيء إلا لارتياده مقاهي المثقفين. يروي طايع تاريخ المقهى: أخذ المقهى شكله الحالي بعد سنوات طويلة. في البداية لم يكن صاحب المقهى، الحاج عبداللطيف، يملك إلا صندوقاً حديدياً يضع فيه المشروبات الغازية وكان المحل حيث المقهى اليوم مغلقاً. اشتراه الحاج عبداللطيف وزرع شجرة واحدة في الممر الملاصق لمقهى «ريش» فكان يجتمع تحتها عدد كبير من المثقفين بينهم يوسف إدريس، أمل دنقل، يحيى الطاهر عبدالله، دكتور لويس عوض، محمد مستجاب، خيري شلبي والملحن سيد مكاوي.إذا كانت «زهرة البستان» حاولت سحب البساط من تحت أقدام «ريش» فإن مقاهي البورصة لحقت بها ونجحت فعلاً في سحب البساط من تحت أقدام من سبقها، خاصة مقهى «عم فتحي» أو قهوة «البورصة». رغم أنها واحدة من بين خمسة عشر مقهى تحمل الاسم نفسه إلا أنها اشتهرت باسم «البورصة» وأصبح عم فتحي اليوم أحد أشهر أصحاب المقاهي في مصر، يعرفه المثقفون ويرتادون مقهاه. يقول عم فتحي إنه اشترى هذا المقهى قبل 36 عاماً وكان اسمه في ذلك الوقت مقهى «ماركوني» نسبة إلى مخترع الإذاعة إذ كان ملاصقاً للإذاعة القديمة. يضيف أن مقر جريدة «الأهرام» القديم كان في جوار المقهى وكان بعض المكاتب الإدارية في الجريدة فوق المقهى نفسه ومنها مكتب رئيس التحرير الأشهر الكاتب محمد حسنين هيكل. يذكر عم فتحي أن بين زبائنه القدامى مجموعة من الفنانين مثل السيد بدير وماهر العطار وخضرة محمد خضر... أضحى المقهى الآن مكاناً لتجمع الممثلين الشبان والشعراء والصحافيين. قرب ميدان التحرير وفي أحد الشوارع المتفرعة منه، يقع مقهى «التكعيبة» في جوار قصر شامبليون (العالم الفرنسي الذي فك رموز اللغة المصرية القديمة وكشف للعالم أسرار الحضارة الفرعونية). حصل على اسمه من «تكعيبة العنب» التي كانت أمامه. يجتمع فيه عدد كبير من الفنانين والمثقفين ولا تمر ليلة إلا وتعقد حلقة كبيرة حول أحد العازفين أو الشعراء الشباب أو تناقش قضية فكرية أو سياسية.مقهى «الفيشاوي» يأخذك عطر المكان إليه رغم أنك تذهب إليه مسحوراً بكل شيء فيه. أين أنت الآن؟ أنت الآن في رحاب «الإمام الحسين» المسجد والمقام والذكر الطيب، في القاهرة القديمة التي ينطلق منها عبق التاريخ. هنا في «الفيشاوي» تتداعى أمامك الصور فترى من كان ذاهباً وغادياً وجالساً وقائماً من العظماء الذين تخرجوا من الجامعة الشعبية. على هذا الكرسي كان يجلس أمير الشعراء الصعاليك عبد الحميد الديب يكتب أشعاره الأكثر صعلكة. هنا انطلقت نوادر الشيخ عبدالعزيز البشري والتقى في السرّ الثوريون الشباب في العشرينات من القرن الماضي وفي الثلاثينات لتدبير تحركاتهم ضد جيش الاحتلال. في ليالي الغارات على القاهرة، إبان الحرب العالمية الثانية، كان يسهر الزبائن في المقهى الوحيد الذي يظل ّساهراً حتى الصباح بعد أن يغلق الزبائن أبوابه ويمارسون لعبة «الدومينو» وشرب الشاي الأخضر. هنا مات عام 1968 الحاج مصطفى الفيشاوي متأثراً بقرار إزالة ثلث المقهى. ارتاد المقهى، عبر تاريخه الطويل، الملوك والرؤساء والزعماء وبينهم «أوجيني» إمبراطورة فرنسا حين زارت خديوي مصر «إسماعيل» لحضور افتتاح «قناة السويس».اشتهر المقهى كمجلس مفضل للمثقفين. قال لي أحد العاملين فيه: هنا كان يجلس السيد جمال الدين الأفغاني وعبدالله النديم خطيب الثورة العربية والشيخ البشري... أضاف إنه عايش لاحقاً أديب مصر العظيم وصاحب نوبل نجيب محفوظ وأطلق أصحاب المقهى اسمه على حجرة الأرابيسك في أحد أركانه.يضمّ سجل الزيارات في المقهى مجموعة من التواقيع لكبار المثقفين والسياسيين والأدباء. من الرؤساء جمال عبدالناصر ولاظوغلي باشا نائب الوالي محمد علي باشا، الى الفيلسوف الفرنسي سارتر وسيمون دو بوفوار والشيخ محمد عبده وسعد زغلول ومصطفى كامل والموسيقار محمد عبدالوهاب وأم كلثوم.«سعد سعد يحيا سعد» هكذا ينادي الزبائن «عمي سعد» كبير العمال في مقهى «الحرية» في ميدان «باب اللوق»، ميدان «الأزهار» سابقاً، حين كان شبيهاً بحديقة عامة خالية لا يظهر فيها أو وحولها إلا بعض المارة أو الجنود الإنكليز. افتتح المقهى عام 1936م وتبلغ مساحته 350 متراً وارتفاعه نحو ستة أمتار وشيّد في مكان بيت الزعيم أحمد عرابي. يقول عم سعد: كان من رواد المقهى الفنان الكبير زكريا أحمد ورشدي أباظة وأحمد مظهر وأحمد رمزي وزكريا الحجاوي ولاعب كرة القدم عبد الكريم صقر ومختار التتش والشيخ أحمد حسن الباقوري والفنان شكري سرحان والمخرج حسن الإمام.أضاف: كان المقهى يضمّ صالون حلاقة مختصاً بزبائن المقهى. كان سعر حلاقة الشعر والذقن في الخمسينات ومطلع الستينات «5 قروش». تذكر عمي سعد فجأة إنه عرف من أصحاب المقهى أن الشاعر الكبير بيرم التونسي كان يجلس صيفاً أمام بابه يكتب ويقرأ، ويجلس شتاءً في الداخل ويتحلق حوله الناس من مستويات ثقافية متفاوتة.