Ad

من الخلاصات الأساسية للمعارك الفكرية التي شهدتها مصر في القرن العشرين: أنه من الضروري أن يثق المتدينون بعقيدتهم، ويؤمنون بأنها أقوى دوماً من أن ينال منها رأي، أو يهدمها فكر، وأن إحالة الخلافات الفكرية والفقهية إلى ساحات القضاء هو العجز بعينه، كما أن بعض المعارك الفكرية قام نظراً لجمود الفقه الإسلامي.

في المقال السابق تناولت أربع نتائج أو خلاصات أساسية للمعارك الفكرية التي شهدتها مصر في القرن العشرين، أثبتت جميعها أن النقاش الهادئ ومقارعة الحجة بالحجة، وتوافر شروط النقد الذاتي، كفيل بتعديل ما اعوج من فكر، وتقويم ما شذّ من رأي. أما الإرهاب الفكري، ورمي الناس بالفسوق والخيانة، فقد يؤدي إلى عناد حتى لو في الباطل، بل يساعد ضعاف النفوس على تحقيق ما يسعون إليه من شهرة أو مال.

والنتيجة الخامسة التي نخرج بها من هذه المعارك أنه من الضروري أن يثق المتدينون بعقيدتهم، ويؤمنون بأنها أقوى دوماً من أن ينال منها رأي، أو يهدمها فكر. ولقد برهنت مسيرة الحياة أن الإسلام لم تضره السهام التي رُمي بها، بل زادته منعة وقوة، لأنه ينطوي على بساطة في العقيدة تتأسس على الإيمان بوحدانية الله، وكمال صفاته الحسنى، والعلاقة المباشرة بين الإنسان وربه، وعدم إغفال النية، مع ترك الحكم عليها لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومسؤولية الإنسان عن أفعاله، إذ «لا تزر وازرة وزر أخرى»، علاوة على مواكبة قواعد وأحكام الإسلام للفطرة الإنسانية.

كما بان برهان على أن الإلحاد غباء، منذ أن قدم العلم حججاً عقلية تجريبية لما جاءت به الأديان السماوية في خلق الكون، بعد أن أثبتت النظريات التي تلت «نسبية آنشتين» أن للكون عمراً، أي أنه مخلوق، وليس أبدياً، كما كان يدعي الملحدون. ومن ثم فإن القابضين على دينهم، المؤمنين بربهم، عليهم أن يتساموا في مواجهة أي رأي، يرون فيه شبهة تجديف بالدين، ويتصرفون من منطلق أن ما هم عليه أقوى من أن تهزه سطور عارية في رواية أو قصيدة، أو أفكار خارجة بين دفتي كتاب، أو أي عمل ثقافي آخر. وعليهم فقط أن يبحثوا في الدين عما يدحض ما يطرحه مخالفوهم في الرؤية والتصور الإيماني، وأن يطلبوا من الله لهم الهداية، من دون أن يتحول المؤمنون إلى قائمين مقام الله سبحانه وتعالى في الحكم على نوايا عباده، ومحاسبتهم عما يدور في طويتهم.

أما النتيجة السادسة فإن إحالة الخلافات الفكرية والفقهية إلى ساحات القضاء هو العجز بعينه. ففي أغلب الأوقات لم يكن القضاء مؤهلاً للنظر في مثل هذه القضايا، فجاءت الأحكام قاصرة مبتسرة تنطوي على جهل بمعنى ومبنى الأفكار محل الخلاف. وفي أوقات أخرى لم يكن القضاء بعيداً عن الضغوط السياسية والاجتماعية في فضه لهذا النوع من المنازعات، فجاءت أحكامه جائرة. والأفضل أن يتم تكوين لجان محايدة، يتم اختيار أعضائها حسب كل قضية، تدرس الأفكار التي تثير جدلاً، وتدلي برأي شامل فيها، ينهي التنازع، ويريح النفوس، ويجلي العقول التي تستغلق أحياناً أمام الفهم، وتنقاد لطيش أعمى.

والنتيجة السابعة هي أن بعض المعارك الفكرية قام نظراً لجمود الفقه الإسلامي، والوقوف عند ما أنتجه الرعيل الأول من العلماء والاكتفاء به، من جهة، والخلط بين «الإلهي» و«البشري» من جهة ثانية. وقد آن الأوان لفقه جديد، ولتفريق بين الإلهي والبشري في النصوص، فلا قدسية إلا للقرآن الكريم والأحاديث القدسية وما ثبت صحته من الأحاديث النبوية بعد قياسها على المبادئ والأحكام التي جاءت في النص الأول والمؤسس وهو القرآن، وعلى المقاصد العامة للشرع الإسلامي. أما الاجتهادات التي أنتجتها حركة الفقه منذ صدر الإسلام حتى اللحظة الراهنة، فهي عمل بشري، بعضه لا يصلح مطلقاً لزماننا، ويجب ألا يحاط بهالة مقدسة، ولا يتمتع منتجوه بعصمة، ولا يكتسب أهميته إلا من زاوية أنه جزء من تاريخ الفقه، وفي بعضه ما يرشد إلى فهم قضايا دينية معينة، من دون أن ينسحب هذا على جميع الفقه وكل القضايا.

وأخيراً فإنه من الخطر أن تتم تعبئة العوام خلال المعارك الفكرية، أو استغلالهم في ترجيح رأي على آخر، أو إرهاب صاحب فكر. فهذه القضايا تكون من التعقيد بما لا يمكن لعامة الناس أن يحيطوا بها كاملة، ومن ثم فإن إشراكهم في المعركة، يزيد الأمور حرجاً، ويسوق أهل الرأي في اتجاه ترضية الناس وكسبهم، وليس في طريق الانتصار للحق والحقيقة. ولأن رأي العوام يميل دوماً إلى المحافظة، وينزع إلى التمسك بما هو سائد، فإن فرص إحداث تراكم معرفي أو تقدم فكري تتضاءل. في الوقت نفسه ليس المطلوب من أصحاب الرأي، أياً كانت مواقفهم وتصوراتهم، أن يصدموا الناس في ما يعتقدون، ففي هذا اعتداء على حريتهم، وإضرار بسلامتهم النفسية.

* كاتب وباحث مصري