ضد المنطق
تقدر المصادر الدولية أن حجم التحويلات المالية من خارج الصومال يتراوح ما بين 825 مليون دولار إلى أكثر من مليار دولار، وهو مبلغ يفوق حجمه الأنشطة الاقتصادية القائمة في الصومال كلها. ولعل السؤال المطروح هنا كيف لشبكة التحويلات المالية تلك أن تكون بتلك الكفاءة من دون وجود مصرف واحد، ومن دون وجود بنك مركزي؟!
رسائل عديدة وصلتني تعقيباً واستفساراً بشأن مقالاتي عن الصومال، في مجملها طلب مزيد من المعلومات عن بلاد تعيش حالة شقاء كاد يصبح مزمناً ولا يبدو أن هناك نوراً محتملاً في نهاية النفق المظلم.وقد انتقيت من تلك الرسائل رسالة للأخ العزيز يحيى الحدي من اليمن يعلق ويضيف فيها بشأن موضوع «القات» إذ يقول «ما كان يجب أن تفسد صيامك بالإساءة إلى «معبود الجماهير» الصومالية واليمنية (يقصد القات طبعاً)، والحقيقة أن الموضوع ثري وليس كما يتصور بعضهم، فإذا افترضنا مثلاً أن عدد من يتعاطون «القات» في اليمن وحدها ربما يبلغ 5 ملايين آدمي على أقل تقدير... فما بالك طبعاً عندما تضيف ملايين أخرى من البشر في دول القرن الأفريقي وكينيا وغيرها، وقبل أن تدخل شبكة الاتصالات الهاتفية المتنقلة إلى اليمن، كان مزارعو «القات» وتجاره الكبار وحدهم هم الذين يستخدمون أجهزة اتصال لاسلكية حديثة يتابعون من خلالها تجارتهم!إمبراطوريات مالية باتت تقف وراء هذه «الصناعة» وتقاتل بشراسة كل محاولة جادة لإيقاف نموها، وبمناسبة الحديث عن زيارتك للوزير الصومالي وانشغاله عنك «في جلسة قات» فقد لا تتصور انك كنت في تلك اللحظات من ألد الأعداء، مشتتاً للجماعات وهادماً للذات... ومَن «الصاحي» الذي يحب إنسان بهذه المواصفات؟ فما بالك بمتعاط، لأنك عملياً كنت «القات» اللي «موصاحي» أصلاً؟ وعلى أية حال كانت التقاطة جميلة منك لموضوع ثري فيه كثير من الجوانب والتأثيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفيه أيضا الكثير والكثير من الطرائف والنوادر بما لا يتسع المجال هنا لشرحها أو الحديث عنها، وكان ذلك جزءاً من رسالة للأخ يحيى. وكما أسلفت، فإنه أمر يثير الاستغراب... تلك الدقة والكفاءة العالية التي تدار بها تجارة «القات» فلا يمكن أن تتخلف طائرة عن موعدها وصولاً واقلاعاً مهما تدهورت الظروف، في وسط الحروب والأعاصير والفيضانات والجفاف قد تتوقف الحياة، إلا «القات» يظل يعمل عندما يتوقف الآخرون. أما النشاطان الآخران اللذان لا يبدو أنهما معنيان بالدمار الحادث في البلاد فهما التحويلات المالية ومؤسساتها، والهواتف النقالة وشركاتها.ولعل السؤال المطروح هنا كيف لشبكة التحويلات المالية تلك ان تكون بتلك الكفاءة من دون وجود مصرف واحد، ومن دون وجود بنك مركزي فعندما تريد تحويل مبلغ مالي إلى داخل الصومال فما عليك إلا أن تذهب إلى إحدى وكلاء الشركات (كدهبشيل)، مثلا، في أي مكان بالعالم وتودع المبلغ المطلوب وخلال دقائق، وربما أقل، فإن المبلغ يصبح في المكان الذي تريده بالصومال؛ فما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من «مال» إلى «مال». وتقدر المصادر الدولية أن حجم التحويلات المالية من خارج الصومال يتراوح ما بين 825 مليون دولار إلى أكثر من مليار دولار، وهو مبلغ يفوق حجمه كل الأنشطة الاقتصادية القائمة في الصومال. وقد أغلقت الولايات المتحدة عدداً من تلك الشركات، وعلى الأخص «البركات» في إطار حملتها ضد الارهاب ولاشك أنه كان قراراً يتسم بعدم الحكمة.اما النشاط الآخر، الذي يتم في الصومال من دون انقطاع، بل يزيد زيادة مستمرة، فهو الهواتف النقالة، إذ يوجد هناك على الأقل 5 شركات توفر تلك الخدمات، كما يوفر العديد منها خدمات الإنترنت، وهي على ما يبدو الأرخص من حيث التكلفة. والشركات هي «هورمود تيلكوم صوماليا»، و«ناشتال لنك صوماليا»، و«صومافون» و«تلكوم صوماليا» و«تلسوم موبايل». كذلك فقد تم إغلاق أكثر من شركة اتصالات منها «البركات» للاتصالات، في إطار الحرب الكونية على الإرهاب.وهكذا في وسط الركام والضياع والتشتت، هناك شيء ما يعمل بكفاءة عالية. فإذا علمنا بأن الصومال فيه من الثروات الطبيعية؛ اليورانيوم والحديد والجبس والبوكسايت والنحاس، والغاز الطبيعي والنفط، والثروة السمكية غير المحدودة، والثروة الحيوانية الهائلة، بالإضافة الى الموقع الاستراتيجي كمدخل لباب المندب وقناة السويس.. فلنا أن نتخيل حجم الفرص الضائعة. والمؤسف أن الاحتمالات القادمة أكثر قتامة... والله المستعان.