لا يوجد ارتباط بين القضية الفلسطينية والكوسوفية لأسباب منها: أن شعب كوسوفو مسلم، وهي تعتبر بلداً أوروبياً، في حين أن الفلسطينيين يُعتبرون مسلمين وشرقيين. كذلك شعب كوسوفو موحد الصف والكلمة والهدف، بينما الشعب الفلسطيني شعب منقسم على نفسه.- 1 -
أثار استقلال كوسوفو، واعتراف بعض الدول الأوروبية بها حتى الآن، وكذلك اعتراف أميركا، رغم ما دفعته من ثمن باهظ لهذا الاعتراف، وهو إحراق سفارتها في بلغراد من قبل الصرب المحتجين على انفصال كوسوفو، شهية الفلسطينيين لإقامة دولتهم من جانب واحد، والطلب من دول العالم الاعتراف بهم، مادامت إسرائيل مُتعنّتةً كل هذا التعنت، ولا تريد -بالقلم العريض- أن يكون إلى جانبها دولة فلسطينية. فهي تكره الفلسطينيين، وتعتبرهم كما سبق، أن قال عنهم شارون «إنهم إرهابيون ويجب قتلهم». وقد أكَّد هذه المقولة الجماعات الدينية المسلحة الفلسطينية، وعلى رأسها «حماس»، التي أشعلت بالانتفاضة الثانية، وشوّهت الصورة الفلسطينية الجميلة التي رسمتها الانتفاضة الأولى (انتفاضة أطفال الحجارة)، وبدا الشعب الفلسطيني الآن أمام العالم شعباً إرهابياً انتحارياً. كما بدت السلطة الفلسطينية الآن أمام العالم، سلطة لا تحافظ إلا على هذه السلطة، والبقاء في هذه السلطة، كما نشاهد من خلال إصرار «حماس» على البقاء في السلطة في غزة وإن جاعت، وفي غزة وإن احترقت.
- 2 -
على إثر إعلان استقلال كوسوفو، ثارت الحميّة العاطفية الفلسطينية، فشبّه ياسر عبد ربّه المساعد البارز للرئيس الفلسطيني محمود عباس وأحد حمائم السلام في المنظمة الفلسطينية الوضع في فلسطين بما يحدث في كوسوفو. وقال بشكل عاطفي مثير وبحميّة فلسطينية، إن الفلسطينيين سيبحثون إعلان قيام دولة مستقلة من جانب واحد، إذا استمر تعثر محادثات السلام مع إسرائيل. لكن المفاوض الفلسطيني صائب عريقات كان أكثر عقلانية من عبد ربّه، إذ أبدى معارضته لأي إعلان للاستقلال من جانب واحد. ولم يكن تصريح عبد ربّه هذا رد فعل مباشر لإعلان استقلال كوسوفو، بقدر ما كان رد فعل عاطفي لما تقوم به إسرائيل من تعنّت وتسويف للوصول إلى اتفاق ثنائي على إقامة الدولة الفلسطينية، مستغلةً الانشقاق الفلسطيني بين «فتح» و«حماس»، ومستغلةً ضعف القيادة الفلسطينية بقيادة محمود عباس -نتيجة للانشقاق- ومستغلةً الوضع الإقليمي العربي الممزق والمشتت على هذا النحو الآن، وانشغال العرب بالقضية اللبنانية التي تتعقد وتتأزم يوماً بعد يوم، ومستغلةً كذلك الوضع الدولي، وانشغال أميركا -خاصة- بالانتخابات الرئاسية الأميركية، وعدم اهتمام إدارة بوش التي تستعد للرحيل في نهاية هذا العام بالقضية الفلسطينية، وانشغالها بالعراق بالدرجة الأولى، وأفغانستان ثانياً، وجارتها باكستان ثالثاً، وهي دول تشكِّل المثلث الإرهابي التي تحاول إدارة بوش تحقيق تقدم فيه، خدمة لمرشح الرئاسة الجمهوري القادم السيناتور جون ماكين.
- 3 -
لنفرض أن القيادة الفلسطينية مضت قُدماً بإعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد، تلبية لنداء ياسر عبد ربّه الذي قال فيه: «إذا لم تسر الأمور في اتجاه وقف فعلي للنشاطات الاستيطانية، وإذا لم تسر الأمور في اتجاه مفاوضات جادة، فعندها لا بُدَّ أن نأخذ خطوة بإعلان استقلالنا من طرف واحد. إن كوسوفو ليست أفضل منا. نحن نستحق الاستقلال قبل كوسوفو، ونطلب دعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإعلان استقلالنا».
- 4 -
هل يمكن للسلطة الفلسطينية أن تعلن من جانب واحد الاستقلال، وإعلان الدولة الفلسطينية، وتطلب من العالم خصوصاً أميركا والاتحاد الأوروبي الاعتراف بها؟
في واقع الأمر، نرى أن لا علاقة ارتباط بين القضية الفلسطينية والكوسوفية للأسباب التالية:
1 - رغم أن شعب كوسوفو مسلم، وهم قد انفصلوا عن صربيا المسيحية، فإن كوسوفو تعتبر بلداً أوروبياً، وشعبها شعباً أوروبياً، وكان جزءاً من يوغسلافيا الأوروبية. ومن هنا، جاء تعاطف أوروبا وأميركا مع هذا الشعب واعترافهم بدولته الفتية. وربما انضمت كوسوفو غداً إلى الاتحاد الأوروبي، قبل تركيا التي تطالب بهذه العضوية منذ سنوات طويلة، والتي مازالت تُعتبر دولة شرقية إسلامية. وزاد إباحة الحجاب في الجامعات التركية أخيراً كخطوة ابتعاد عن العلمانية، واقتراب من الدولة الدينية مجدداً بقيادة حزب «العدالة والتنمية» من صعوبة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. في حين أن الفلسطينيين يُعتبرون مسلمين وشرقيين.
2 - استطاع شعب كوسوفو أن يقدم النموذج الإنساني المعاصر الأمثل في كفاحه السلمي ضد الصرب، رغم ما اعترى هذا الكفاح من حوادث قتل. ولكن لم يختطف الكوسوفيون طائرات الصرب، ولم يقتلوا المدنيين فيها. ولم يطلقوا صواريخهم على المدنيين الصرب. ولم يفجّروا بقنابلهم السفارات. ولم تصدر فتاوى دينية في كوسوفو لبقر بطون النساء الصربيات، لأن فيها من الأجنّة ما سوف يكونون غداً جنوداً في جيش الصرب «الصليبي». ولم يتحالف الكوسوفيون مع دولة أوروبية تُعتبر ماكينة ضخمة من ماكينات تفريخ الإرهاب في المنطقة، لأنها لم تعد تملك من وسائل القوة والسيطرة و (البلطجة) في المنطقة غير أن تكون تلك الماكينة. وكانت «ضربة المعلم» التي قام بها الكوسوفيون، هي أن يبدو شعب كوسوفو أمام ضمير العالم كله، والرأي العام العالمي كله، أنه شعب مظلوم وليس بظالم، وأنه شعب معتَدَى عليه وليس بالمُعتدي، وأنه شعب أعزل وليس مسلحاً، وأنه شعب مسالم وليس إرهابياً، وأنه يريد الاستقلال عن صربيا لأنه يعشق السلام وصربيا تعشق الدم، ولأنه يريد الحرية وصربيا تريده عبداً من عبيدها، كما تريد النساء الكوسوفيات خادمات في بيوت الصربيين، وأنه لاانتحاريين في كوسوفو بقدر ما هناك من سياسيين عقلاء.
3 - الشعب الكوسوفي شعب موحد الصف والكلمة والهدف، منذ قيادة زعيم كوسوفو الراحل إبراهيم روغوبا، وتولي قيادة شعب كوسوفو رئيس الوزراء هاشم تاتجي، الذي أعلن استقلال كوسوفو في الأمس، من تحت قبة البرلمان الكوسوفي. بينما الشعب الفلسطيني شعب منقسم على نفسه، نصفه يريد السلام مع إسرائيل، والنصف الآخر يريد الحرب معها وهو لا يملك من مقومات هذه الحرب غير مواسير محشيّة بملح البارود -كما وصفها محمود عباس- يُطلق عليها «صورايخ» لا تفعل شيئاً جدياً يجبر إسرائيل على تغيير سياستها الحالية نحو الفلسطينيين، بل يزيدها عناداً، وتشدداً، ورفضاً لمحادثات السلام، وقيام الدولة الفلسطينية.
4 - انفصلت كوسوفو عن صربيا المكروهة والمنبوذة -رغم مسيحيتها- من قبل الاتحاد الأوروبي وأميركا. في حين أن إسرائيل -وهي خصم الفلسطينيين المقابل لصربيا- دولة تُُعتبر بعيون الغرب عامة مظلومة ومعتدى عليها. ففي الوقت الذي كانت فيه صربيا هي الجهة الظالمة والمستعبِدة للشعب الكوسوفي، بقيت إسرائيل في نظر الغرب عامة هي الدولة المُعتدى عليها، وهي المظلومة والمهدّدَة البقاء، والتي يجب مساندتها والدفاع عن حقوقها في العيش بسلام. وهذا يشير بالطبع إلى مدى الخراب والدمار وسوء إدارة القيادات الفلسطينية للقضية الفلسطينية، وكيفية كسب الرأي العام العالمي.
ومازال في الجعبة كلام كثير.
* كاتب أردني