بداية وقبل كل شيء، مهم أن ندرك أنه عندما يكثر الحديث في أي مجتمع حول «هيبة الدولة» ويصبح الموضوع مادة كثيرة التداول، فهذا بذاته دليل على أن «النظام» يعاني خللاً، قبل أن يسوّغ لنا تفسير الأمر باستخفاف طرف ما بهذه الهيبة. وكلمة النظام هنا وإن كانت مفتوحة على المعاني جميعها التي قد ينصرف إليها الذهن، فإنني أقصدها بالإطار الأعم، أي المعنى الشامل الحاوي للجزئيات والتفصيلات المحتملة كلها.

Ad

إن مصطلح «الهيبة» لا يعني «التخويف»، فالهيبة تحوي في داخلها وقبل الجزء المرتبط بالتخويف، إن كان هذا الجزء موجوداً فيها بقيمة جوهرية فعلاً، جزئية فرض الاحترام والتقدير، وهو الجزء الأساسي الأكثر أهمية. أن تهاب شخصاً ما يعني أن تحترمه وتقدره بشكل نابع من حبك وولائك له، لا من خوفك منه. يمكن لشخص أن يخيفنا بتلويح عصا البطش، ولكن يستحيل أن يفرض هيبته أمامنا من خلال ذلك مهما حاول. وكذلك هي حال الأنظمة، يمكن لها أن تبث الرعب في نفوس مواطنيها بالحديد والنار، ولكن من المستحيل أن تفرض هيبتها واحترامها عليهم عبر ذلك، بل العكس من ذلك فإنها ستبث في نفوسهم احتقارها وازدراءها وقد توصلهم إلى كرهها ومعاداتها إن هي استمرأت هدر كرامتهم وسحق حقوقهم.

ولو استعرضنا دول البطش في القديم والحديث، تلك التي اشتهرت بأجهزة الأمن السرية والقبضات الضاربة، لوجدنا أنها، نفسها، الدول القابعة في ذيل قوائم النجاح والتقدم في الميادين كلها؛ سياسياً واقتصادياً وعلمياً ومجتمعياً، وكأنها ببطشها تداري فشلها وعيوبها، ولوجدناها أيضاً، وهذه مفارقة مضحكة، الأكثر عرضة للاضطرابات الداخلية ولبروز حركات المعارضة العنيفة وتلك التي تعلن العداء ضد النظام علناً في الداخل والخارج. وفي المقابل نجد دوماً أن الدول الديموقراطية الحقيقية التي تحترم الحريات ولا تعرف البطش والتنكيل، هي الأكثر تقدماً في كل مجال والأكثر استقراراً واطمئناناً.

لذا، فمن المزعج إلى حد الغثيان، أن نجد هذه الأيام مَن يطالب بفرض هيبة الدولة واحترام النظام، عبر إطلاق يد ما يسمى بجهاز أمن الدولة للتعامل وبغلظة مع المشتبه فيهم على خلفية موضوع «التـأبين»، وتبريره لهذا بأن ما حصل هو نتيجة لاختلال هيبة الدولة وضعف النظام. ولم يكن الأمر ليشكل لي أي قيمة لو جاءت هذه المطالبات من عوام الناس ممن قد لا يستشعرون مآلات الأمور، ولكن المزعج في المسألة، أن من ضمن مطلقي هذه المطالبات مَن كنا نحسبهم، أو سأقول كنت أحسبهم شخصياً، على ما سأسميه دائرة التنوير الديموقراطي ودعم الحريات والتغني بالدولة المدنية الحديثة!

كيف استقام في عقول هؤلاء ومنطقهم القبول ابتداءً بوجود جهاز مستقل تحت مسمى أمن الدولة في دولة دستور ومؤسسات وديموقراطية، مع وجود أجهزة الأمن الواضحة التابعة لوزارة الداخلية، وإن تمكن أحد منهم من إقناعنا بالحاجة الحقيقية إلى وجود هذا الجهاز واختصاصاته، فكيف يمكن له إقناعنا بدعوة بعضهم لإطلاق يده بحجة فرض هيبة الدولة؟!

إن الشدة الواضحة التي اتّبعت في التعامل مع المتهمين على هامش قضية «التأبين»، وكذلك التشدد الإجرائي الذي مورس معهم لا يمكن تبريره على الإطلاق، ناهيك عن القبول به، وذلك بناء على المبدأ القانوني المعروف بأن «كل متهم بريء حتى تثبت إدانته». لذلك حتى لو كانت التهمة الموجهة إلى هؤلاء قد قفزت، لسبب مجهول، من مجرد المشاركة في التأبين، إلى الارتباط بتنظيم خارجي، بل إلى التآمر على الإخلال بنظام الحكم، فعلى أي أساس يحق لأحد أن يمارس دور الشرطي والحكم والجلاد، في حين لم تثبت أي تهمة على أحد حتى الآن؟!

فالقول إن ما حصل في الأساس راجع إلى اختلال هيبة الدولة ومطالبة النظام لذلك باستعادتها من خلال الحزم والشدة الأمنية، هو قول معتل يستند إلى وهم، فالهيبة، وكما أسلفنا، نتيجة تتحقق في المحصلة وليست فعلاً مباشراً. كيف يراد للدولة أن تحافظ على هيبتها واحترامها أمام شعبها والنظام منكشف بعجزه عن تسيير شؤون العباد والبلاد، وكيف يُراد لها أن تحافظ على هيبتها والفساد ينخر في عظام النظام، أو أن تحافظ على هيبتها والقانون فاقد لقيمته على مختلف المستويات ومكسور معطل على يد النظام قبل غيره؟!

أتمنى أن ننتبه إلى خطورة الأمر قبل فوات الأوان، وألا ننساق وراء هذه الفكرة المعيبة حتى إن كنا نحمل في نفوسنا غضباً شديداً على مَن اقترفوا ما نراه خطأً في حق الوطن، بل حتى لو كنا نتهمهم بالخيانة والولاء للخارج، مادام القضاء لم يقل كلمته ولم تثبت تهمة في حق أحد، لأننا إن قبلناه على أحد اليوم فلن يكون مأموناً بعدها أن يجد أي منا نفسه في الموقع نفسه غداً لهذا السبب أو ذاك.

وأتمنى كذلك ألا ينجر النظام وراء فكرة فرض هيبته عبر استخدام اليد الحديدية الباطشة، لأن التاريخ أثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأنه ما من نظام سلك هذا المسلك إلا كان سبباً في إعاقة، إن لم يكن تدمير، نفسه.

لينشغل النظام بعلاج نفسه ومداواة علله عبر التخلص من الجراثيم والطفيليات المنتشرة في أوصاله، وبعدها سيجد أن شعبه قد استعاد ثقته به، وسوف يشاهد كيف ستعود الهيبة المهدورة تلقائياً.