Ad

في الدعاوى المتعلقة بالحريات أو بالنظام العام، غالباً ما يكون القرار القضائي ملحقاً بالقرار السلطوي بالمطلق. وفي أحيان أخرى، يكون ضمير القاضي مؤدلجاً، دينياً أو فكرياً لا فرق، ما يؤدي إلى هدر كارثي للعدالة ناتج عن تضافر النص الفضفاض مع التأويل المؤدلج.

الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، ضحية جديدة في دعوى سب وقذف مرفوعة ضدها من قبل الشيخ يوسف البدري. سبب الدعوى تضامن المنظمة المذكورة مع ضحايا البدري من مبدعين ومثقفين، وهو الذي دأب على اللجوء إلى القضاء مراراً وتكراراً، إما «حفاظا» على الشريعة الإسلامية والسنة النبوية! وإما انتصارا لذاته المعتدى عليها من قبل هؤلاء بالإساءة والتشهير! وفقا لما يرى ويقول ويؤول.

هذه النقلة «النوعية» من الحقل الثقافي إلى الحقل الحقوقي عبر القطار القضائي، ستكون مناسبة جديدة للحديث عن الدور السلبي «للسلطة» الدينية في أوجهها المقيدة لحرية الرأي والتعبير والإبداع في عالمنا العربي. لكنها من باب أولى، أن تكون مناسبة متجددة للحديث عن دور القضاء والقانون في حماية تلك الحرية وتعزيزها، أو العكس ربما.

بديهي أنه لو لم يكسب البدري دعاوى سابقة أقامها في الإطار نفسه أمام القضاء، لما استمرأ اللعبة وعمد إلى تكرارها من حين لآخر. والأشهر القليلة الماضية تحمل أمثلة سوداوية لممارسات القضاء في أكثر من دولة عربية. محاكمة الممرضات البلغاريات في ليبيا والنتيجة الهزلية- بكل ما تحمله من مأساوية- التي أفضت إليها. المذيعة التي أكدت طوال عشر دقائق من برنامجها في إحدى الفضائيات العربية، نزاهة وعدالة القضاء اللبناني، ولم تجد جواباً عن سبب احتجاز معتقل أكثر من سنتين هناك دون توجيه تهمة له. الدعاوى التي أقيمت ضد القرارات الأمنية بمنع المغادرة في سورية واستحصلت على أحكام لمصلحتها لم تجد لها طريقاً للتطبيق. والدعاوى التي أقيمت ضد مرتكبي التعذيب في مصر طالت أعواماً وسقط منها سهواً عدد من المتهمين الأساسيين.

ولعل المرء يتساءل، لماذا يعتبر حدثاً نادراً جداً أن تتم تبرئة معتقل رأي في محاكمة له أمام قضاء عربي، سواء كان قد اعتقل بسبب مقال أو تصريح أو نشاط سلمي؟ ثم كيف ينتصر القضاء لعقيدة فكرية أو دينية معينة دون أخرى؟ ولماذا؟

هل نصوص القانون هي التي تفتح الباب واسعاً أمام انتهاك مشرع ومقنن لمبادئ حقوق الإنسان، أم أن العيب يكمن في السلطة القضائية بعدم استقلاليتها حيناً وفسادها أحياناً، فضلاً عن أدلجة بعض قضاتها أحيانا أخرى؟

وإذا سلمنا بافتقار القضاء الاستثنائي الموجود في بعض الدول العربية إلى العدالة، فماذا عن القضاء العادي هنا وهناك؟

الأصل أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون، وهذا القانون يحدد الفعل المجرم وأركانه وعقوبته بشكل واضح ومحدد.

غير أن الواقع زاخر بالنصوص القانونية وليدة «الثورات» والانقلابات والسلطات المكبلة لأي حراك فكري أو اجتماعي. هذه النصوص هي بالمجمل تعابير فضفاضة تحتمل تأويلاً واسعاً، وتحاكم على النيات والأفكار لا على الأعمال والأفعال، وهي أخيراً في معظمها غير قابلة للتطبيق العملي. فما هو الفعل مثلاً الذي يمكن أن يقوم به مواطن، ويؤدي بالنتيجة إلى «إضعاف الشعور القومي» أو «وهن نفسية الأمة»، ومن يحدد ماهية الشعور القومي أو يقيس مدى إضعافه أو تعزيزه؟!

وربما يقول قائل إن المشرع حين اعتماده تلك النصوص، ترك لضمير القاضي مهمة تأويل النصوص وتطبيقها بما فيه خير وعدالة المواطنين. وهنا مقتل العدالة الثاني.

ففي «النظم الشمولية ذات الزخم العقائدي المتحكم في أمرها، لايستطيع القضاء أو القضاة أن ينأوا عن تأثير تدخل السلطة التنفيذية، بدعوى حماية الأسس العقائدية للمجتمع الشمولي»، كما لاحظ عن حق، تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004.

ففي مثل تلك الدعاوى المتعلقة بالحريات أو بالنظام العام، غالبا ما يكون القرار القضائي ملحقاً بالقرار السلطوي بالمطلق. وفي أحيان أخرى، يكون ضمير القاضي مؤدلجاً، دينياً أو فكرياً لا فرق، ما يؤدي إلى هدر كارثي للعدالة ناتج عن تضافر النص الفضفاض مع التأويل المؤدلج.

في التقرير المذكور جاء أيضا أن «الحريات مستهدفة من سلطتين، سلطة الأنظمة غير الديموقراطية، وسلطة التقليد والقبلية المتسترة بالدين أحيانا»، والواقع يحيل إلى استخدام السلطتين للسلطة القضائية في كبح تلك الحريات والحد منها.

نختم بتأكيد جان جاك روسو أنه «لا يمكن أن توجد حرية، طالما أن سلطة القضاء غير مفصولة ومستقلة عن السلطة التشريعية والتنفيذية»، ولعل معركة الحريات يجب أن تنتقل من الدفاع عن ضحاياها إلى الهجوم على الأدوات التي تستخدم ضد هؤلاء الضحايا: النص القانوني غير محدد المعالم، و«الضمائر» غير المستقلة أو المؤدلجة على غير العدالة، القائمة على تنفيذه - على افتراض أن لا سلطة على القاضي غير ضميره.

الطريق نحو انتزاع القضاء من يد الاستبداد والأدلجة يمكن أن يكون بإقحامه في الشق الثاني من المعركة، في إقامة الدعاوى ضد الانتهاكات وممارسيها - بغض النظر عن النتيجة، وبالاستخدام المتكرر لنصوص المواثيق الدولية والقوانين والاجتهادات الوطنية التي تدعم الحقوق وتحد من هدرها. حسنا فعل جابر عصفور وجمال الغيطاني وآخرون، في استخدامهم القضاء في مواجهة الشيخ البدري. هي الأخرى نقلة «نوعية» من الثقافي والفكري إلى الحقوقي عبر القطار القضائي.

* كاتبة سورية