كانت صدمة البرجين، صدمة لأبراجنا التعليمية والثقافية والدينية، كانت أشبه بصدمة كهربائية أيقظتنا من نومنا الطويل وسكوتنا المداهن وأعادت وعينا المجتمعي بمصادر الخطر الكامنة بين أظهرنا.بحلول هذا الشهر، تمر الذكرى السنوية السادسة للعدوان القاعدي على أميركا، استعاد الأميركيون الذكريات الحزينة المؤلمة ووقفوا حداداً على أرواح الضحايا الأبرياء الذين ذهبوا صبيحة ذلك اليوم الأسود (11/9) من غير جريرة أو ذنب، كيف يستطيعون أن ينسوا ذلك المشهد الكارثي الرهيب الذي مازال عالقاً في ذاكرتهم وفي ذاكرة العالم. البرجان الشامخان، رمزا الهيبة والكبرياء والشموخ الأميركي، ينهاران أنقاضاً على أشلاء ودماء أكثر من «3000» ضحية شاء حظهم العاثر أن يوجدوا هناك؟!
تجددت أحزانهم على أحبائهم وأقربائهم وهم يستعيدون السيناريو الكارثي المرعب الذي ذكرهم بكارثة «بيرل هاربر» من قبل اليابانيين قبل «66عاما» ولسان حالهم يقول: ماذا فعلنا حتى نستحق هذه العقوبة الغادرة؟! ألم يساهم أولادنا في تحرير الكويت من الغزو الهمجي؟! ألم تحول قواتنا دون فناء المسلمين في البلقان على أيدي الفاشيين الصرب؟! ألم نتدخل ونضغط من أجل أن يكون للسلطة الفلسطينية موطئ قدم في الضفة وغزة بعد أن كانت مشردة في الآفاق؟! ألا نقدم مساعدات بالمليارات للعديد من الدول العربية تستقطع من ضرائبنا سنوياً؟! ألا نتولى حماية السعودية والخليج من الأطماع المحيطة بها؟!
في الجانب الآخر، يفرح المخلفون من أنصار «القاعدة» وأتباعها بفعلتهم، وتبادلوا التهاني سراً وجهراً، وسموها نصراً و«غزواً» مباركاً، ووصفوا القائمين به «العظماء الـ19» ولكنهم فرحوا قليلاً وبكوا ـ بعده ـ كثيراً، إذ لم يقدروا ولم يحسبوا عواقب إدماء أنف المارد الأميركي... لقد كان غضبه مدمراً، زلزلهم وزلزل منطقتنا والعالم أجمع.
لقد كان ذلك اليوم يوما مفصلياً تغيرت فيه أميركا والعالم، وتغير فيه وجه التاريخ، وأصبح عالم ما بعد «11» سبتمبر، غير العالم قبله، وأصبحت الدنيا غير الدنيا التي كنا عهدناها آمنة وأقل تعقيداً، دنيا ما بعد الحادي عشر من سبتمبر أصبحت أكثر توجساً وتخوفاً من الإنسان الذي أصبح ملاحقاً بالمراقبة الأمنية أينما حل أو ارتحل، في المطارات، في الفنادق، وفي المؤسسات المهمة المختلفة، أصبح الإنسان العادي موضع شك فإذا كان عربياً ومسلماً فهو متهم وتصاعدت موجة العداء في العالم ضد أي شيء يحمل ملامح عربية أو إسلاميةـ تداعيات ونتائج وآثار وعواقب (11/9) كانت كبيرة وخطيرة لا على أميركا وحدها ولا على العالم فحسب، بل على المنطقة العربية والإسلامية -خاصة- ولم تخطر ببال من خططوا لضرب أميركا مطلقاً... كان أقصى ما يتوقعه زعيم «القاعدة» أن تضربهم أميركا ببضعة صواريخ كما فعلت من قبل، رداً على سلسلة الاستفزازات بدءاً من ضرب مركز التجارة العالمي (93)، مروراً بأحداث «العليا» في الخبر، فالصومال (93)، فتدمير سفارتي نيروبي ودار السلام (97)، فتفجير كول (2000)،
خلال هذه السنوات الست، تغير العالم كثيراً، وكان نصيب المنطقة من هذه التغيرات كبيراً، سقط النظام القمعي في العراق وحوكم رئيسه وأعدم وتخلص الخليج من جار السوء، الذي لم تؤمَن بوائقه مطلقاً، وتنفس الكويتيون الصعداء وتلاشى كابوس «طالبان» الذي جثم على صدور الأفغان، وتحررت الأفغانية وخرجت من سجنها إلى عملها ومدرستها، وتهاوت أوكار «القاعدة» وقصم ظهرها، وفر أمير المؤمنين وضيفه «بن لادن» إلى الكهوف، وخرجت «سورية» من «لبنان» بعد تلكؤ دام «36عاما»، وتغيرت ليبيا وأعلن زعيمها أن سياسة المواجهة قد ولت، وتحررت «غزة» بعد الانسحاب الإسرائيلي وحصلت انفراجات سياسية في المنطقة، وجرت انتخابات حرة لأول مرة في أكثر من بلد عربي ووصلت جماعات إسلامية إلى السلطة بالطريق الديموقراطي لأول مرة، وحصلت المرأة الخليجية على حقوقها كاملة وأصبحت وزيرة ونائبة وقاضية، وأنشئت في المجتمعات الخليجية لجان ومنظمات حقوق الإنسان واتسعت هوامش الحريات، خصوصاً حريات التعبير والصحافة والإعلام، وانشغلت الأرض العربية بجدل صحي عريض حول مضامين الخطابين الديني والتعليمي بغية تجديدهما وتطويرهما وتضمينهما مضامين إنسانية تواكب عالم ما بعد «11»سبتمبر.
وأصبح العالم متحداً في مواجهة «الإرهاب» يلاحق خلاياه ويحاكم أفراده ويراقب تمويله، أصبح عالم ما بعد «11» سبتمبر أكثر يقظة وحذراً تجاه هؤلاء الذين استغلوا مناخ الحريات في الغرب وأميركا للقيام بعملياتهم الغادرة، وأصبحت المنطقة أكثر خبرة ووعياً في التعامل مع الخطر الإرهابي ولولا «11/9» لاستمر مشروع «القاعدة» الإرهابي في زراعة العنف والكراهية، واستمر تخريبها لهياكل المجتمعات الِإسلامية، ولنجح «بن لادن» في تحويل شبابنا إلى مشروعات إرهابية ولاستعصى العلاج والمواجهة.
لقد كانت صدمة البرجين، صدمة لأبراجنا التعليمية والثقافية والدينية كانت أشبه بصدمة كهربائية أيقظتنا من نومنا الطويل وسكوتنا المداهن وأعادت وعينا المجتمعي بمصادر الخطر الكامنة بين أظهرنا، ذلك الخطر الذي مثل ورما سرطانياً خبيثاً بدأ يستشري في النسيج المجتمعي ويخطف شبابنا ليجعلهم جنوداً لـ«القاعدة» وضد مجتمعاتهم وأنظمتهم.
عالم ما بعد «11» سبتمبر، هو الذي فرض علينا أن نعيد النظر في مناهجنا وخطابنا الديني لتبدأ عملية مراجعة واسعة لمعرفة مواطن الخلل والعطب فيهما، والتي أفرزت شخصيات مثل الظواهري والزرقاوي و«بن لادن» وليطرح دعاة الإصلاح سؤالاً منطقياً كبيرا: لماذا أخفق دعاة «الوسطية» بالرغم من هيمنتهم الطويلة على المناهج والخطاب الدعوي في تقوية مناعة شبابنا وتحصينهم أمام فيروسات التطرف والتعصب؟ هؤلاء الشباب الذين نحروا وانتحروا في أميركا وأوروبا وعلى امتداد الساحة العربية، هم نبت أرضنا، تربوا فيها، وتعلموا في مدارسهم ولقنوا عبر مشايخها وتشكل وجدانهم الديني عبر منابر الدعوة والفتاوى الدينية منذ نعومة أظفارهم، لماذا تركوا الأهل ونقموا على الوطن وتحولوا إلى قنابل بشرية؟! ولماذا لم تثمر تلك التعاليم ثمراً طيباً نافعاً لأوطانهم ولبني الإنسان؟!
وجوابي أن «الفكر القاعدي» مزيج مدمر مستمد من تيارين هما: 1- تيار تكفيري قديم مازال متمكنا من المفاصل المجتمعية الحاكمة للمجتمع، 2- تيار الإسلام السياسي الوافد، وهو تيار بنى مجده وجاذبيته على تذكية الصراع الأبدي مع الغرب باعتباره العدو المتربص بالمسلمين المسؤول عن تخلفهم، ويتهم هذا التيار الأنظمة العربية الحاكمة بأنها صنائع الغرب، أما الكتاب المخلصون لهم فهم «عملاء». هذان التياران تحكما بالمناهج والمنابر وأنتجا هذا الفكر العدمي الكاره للحياة والأحياء، وعالم ما بعد «11/9» هو الذي أتاح مراجعة هذا التراث القمعي التعصبي كما أتاح للأرض العربية قذف ما في أحشائها من موروث قمعي متراكم في شكل هبات تفجيرية هنا وهناك، لقد استغلت قوى التطرف -في غفلة منا- الأرض العربية لزرع خلاياها، ولولا «11/9» لتناسلت وفرّخت وصعب علاجها، لولا «11/9» لاستمرت العنتريات حاكمة للساحة ولظلت الشعارات زاداً للجماهير ولما سقطت الأكاذيب الكبيرة التي غُذينا بها ولتركنا العالم لبؤسنا ولشقائنا وخلافاتنا.
تغير العالم وتغيرت المنطقة وتغيرت المناهج والطرح الديني، شيء واحد لم يتغير، الإيمان بالعقلية التآمرية التي ترى أن وراء «11/9» مؤامرة «أميركية-صهيونية» لاجتياح العالم الإسلامي، إذ مازال قطاع شعبي عريض ومعه نخب ثقافية ودينية تؤمن ببراءة «بن لادن» وصحبه، بل إن معظم فقهاء «الصحوة» يؤمنون بأن «الموساد» وراء العملية، وهم يصدقون النصاب الفرنسي الذي باع لهم «الخديعة المرعبة» قال لهم إن (أميركا ضربت نفسها بنفسها)، وكسب الملايين واختفى!! ولا أدّل في رسوخ نظرية المؤامرة في العقلية العربية من أن إماماً وسطياً كبيراً وقف خطيباً غداة «11/9» ومن على منبر الجامع ليقول «إن أميركا تعلم علم اليقين ذلك، لكنها تحشد للقضاء على المسلمين بدافع صليبي حاقد».
لا مرور السنوات ولا توالي الاعترافات ولا كثرة التحقيقات بقادر على زعزعة قناعة هؤلاء الذين يصرون -بعناد مدهش- على موقفهم، رافضين أي مراجعة... وحده «سلمان العودة» راجع نفسه وأعلن أخيرا براءته من زعيم «القاعدة» بعد «6» سنوات، وأن يرجع الإنسان عن خطئه ولو بعد حين خير من التمادي والعناد، ولا ننسى أن نضيف هنا إلى الحقيقة والتاريخ أن «الجماعة الإسلامية» في مصر قد تبرأت من فكر «القاعدة» وزعيمها من أول يوم، إنه عالم ما بعد «11» سبتمبر وسيفرض نفسه على كل هؤلاء الرافضين والمشككين والمعاندين شاؤوا أم أبوا.
* كاتب قطري