Ad

كانت الحكومة الرشيدة تكابد الرُهاب نفسه من مبدأ إشهار النقابات، وظلت ترفضه بضراوة غير مبررة مرَدها الخشية المرضية الأزلية «إياها»! وها هي النقابات بعد إشهارها، تمارس نشاطها وفق القانون والتقاليد المتعارف عليها، ولم يحدث منها، طوال مسيرتها، ما يكدر صفو الأمن العام!

نشرت «الجريدة» في عددها الصادر الأحد 9 ديسمبر خبراً على الصفحة الأولى يشير إلى أن نواب التحالف الوطني في مجلس الأمة قدموا اقتراحاً بشأن قانون تأسيس الأحزاب السياسية، بحيث «يقوم على التكافؤ، والتساوي بين كل الأحزاب، إذ يجب قيام الحزب على أساس وطني، وأن يتضمن ضرورة مشاركة النساء، وحاجته إلى وضوح الأسس العريضة للبرامج السياسية، أي أن تكون الآلية ديموقراطية تنأى عن آليات ومظاهر عبادة الفرد والقبلية والطائفية».

وأحسب أن الاقتراح جاء في وقته وأوانه؛ ففي خلال العقد الأول من استقلال البلاد كان ثمة تحفظ بشأن إشهار الأحزاب وحضورها في نسيج الحياة السياسية الكويتية بدعاوى وذرائع شتى ما أنزل الله بها من سلطان؛ كالزعم بأنها تثير الفتنة والفرقة والخلاف؛ وما إلى ذلك من هواجس وتوجسات خارجة من رحم مقولة إن الإنسان عدو لما يجهل، زد على ذلك مصلحة البعض في المحافظة على الوضع السائد الموسوم بالشذوذ والغرابة! لاسيما أن الكل يلاحظ أن «الأحزاب» حاضرة بشدة في حياتنا السياسية، ومتجلية في الجمعيات والجماعات والكتل السياسية التي تمارس نشاطها «الخزبي» جهاراً نهاراً تحت مظلة جمعيات النفع العام، بمعنى آخر أقول: إن الاحزاب السياسية حاضرة بالفعل والممارسة، ولا ينقصها سوى عملية الإشهار الرسمي، إذ انه من الخير للبلاد ممارسة الأحزاب غير المعلنة أنشطتها تحت الشمس، خشية أن يضطرها الرفض المتعنت إلى العمل الحركي «السراديبي» السري الذي عانته الدول التي غيّبت الأحزاب ووأدتها من جراء خشية مرضية، ورُهاب اجتماعي، يشيان بحالة لا سوية وغير ديموقراطية، لا تتناغم مع سيمفونية دولة المؤسسات التي نسعى إليها ونطمح فيها.

إن الرافضين وجود الأحزاب يتماهون مع موقف أخينا طيب الذكر العقيد القذافي الملعلع بمقولته الشهيرة: من تحزب خان! والمقولة «القذافية» كما ترون، جاهزة ومجانية، ولا تمُت إلى واقع الحال بصلة! إذ ان وجود الأحزاب في الدول الديموقراطية يمثل القاعدة الصحية السوية، كما أن غيابها يجسد الاستثناء المشين المسيء إلى النظام الذي يلجأ إلى هذه الممارسة اللا ديموقراطية! ذلك أن الديموقراطية المتجذرة الراسخة تنطوي -بداهة- على التعددية والاختلاف، وتداول السلطة وتناوبها عبر أحزاب وطنية تشكل كل ألوان الطيف السياسي الموجودة على أرض الواقع، ولعل تجربة المملكة المغربية الشقيقة في هذا السياق تغنينا عن قول المزيد؛ حسبنا أن نذكر أن المغرب يحضن أحزابا شتى فيها الحزب الشيوعي الماوي، والحزب الشيوعي الموسكوفي، وحزب الاستقلال ذو التوجه العروبي الإسلامي، وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اليساري، فضلا عن أحزاب ذات توجه سلفي إسلامي، وأخرى «أمازيغية» وغيرها. وحتى الحكومة نفسها: لها حزب «الأحرار» الذي هو الآن في موقع المعارضة! ربما لأن إخواننا المغاربة موقنون بأن المعارضة هي الوجه الآخر للحكم، فلو أن حكومتنا الرشيدة أشهرت الأحزاب، وأقدمت على أن يكون لها حزبها «الميري» الخاص، فأحسب، بل أجزم، أنه سيستقطب أعضاء كثُراً «كما عدد الرز»، لأن البشر مجبولون على الحزب الكامل الدسم، المضاهي للبقرة الحلوب الطافح ضرعها بالمن والسلوى، والمصالح وكل منافع الحزب الحكومي ومزاياه! وقد يستحوذ على الأغلبية البرلمانية من دون شريك حيناً، وبالتحالف مع أحزاب أخرى حيناً آخر! وقد آن الأوان -بحق- لإشهار الأحزاب علّها تُثري مسيرتنا الديموقراطية، وتُجذّر حضورها، وتخلص البلاد من مفارقة وجود ساسة ونشطاء وحزبيين من دون أحزاب علنية شرعية ذات برامج قابلة للتنفيذ كفعل يعمر البلاد، ويمكث في الأرض، وينفع الناس.

إن الحكومة الرشيدة معترفة بـ«الأحزاب» السائدة ضمنياً، ولو لم يكن الأمر كذلك فلِمَ إذن تتحالف الحكومة الرشيدة حيناً مع ذوي الاتجاه الإسلامي السلفي والإخواني، ومع الاتجاه الوطني الليبرالي حيناً آخر؟!

والمؤسف أن الرأي الرافض مسألة إشهار الأحزاب يتكئ على التجارب الحزبية العربية التي أفسدت الحياة السياسية والاجتماعية من جراء مراهقة سياسية وفكرية تنخر في نسيج هذه الأحزاب وممارساتها، لكن هذا المنطق يشين البشر «الاوادم» الحزبيين، ولا يجوز أن تنسحب هذه النقيصة والمثلمة على مبدأ وجود الأحزاب وضرورته الوطنية الديموقراطية. وأياً كان فحوى الرأي المعارض و«غيرته» على سلامة الوطن وأمنه ووحدته الوطنية، فإن الأحزاب غير المعلنة موجودة وناشطة، وتتوافر فيها الشروط والمواصفات المطلوبة، ولا ينقصها سوى الإشهار كما أسلفت آنفا، ولا يجوز استمرارها وفق صيغة وضع اليد التي تراوح فيها منذ ظهرت على الأرض، وشرعت في ممارسة نشاطها الحزبي العلني متبرقعة بخمار جمعيات النفع، وجمعيات ذات برامج وأجندة وأهداف تنموية طموحة لا تشبه البتة ركام الشعارات الرنانة الطنانة المدغدغة لمشاعر المواطنين الناخبين الضاحكة على ذقونهم والتي «تلعلع» بها بعض التكتلات والأفراد بالمناسبة، توسلاً لكسب الأصوات ليس إلا!.

واذا انفض سامر الانتخابات تتكدس «البرامج» إياها في سراديب وكراجات ومخازن المرشحين! لقد كانت الحكومة الرشيدة تكابد الرُهاب نفسه من مبدأ إشهار النقابات، وظلت ترفضه بضراوة غير مبررة مرَدها الخشية المرضية الأزلية «إياها»! وها هي النقابات بعد إشهارها، تمارس نشاطها وفق القانون والتقاليد المتعارف عليها، ولم يحدث منها، طوال مسيرتها، ما يكدر صفو الأمن العام! وإذا حدث وتمخض عن ممارستها بعض الهنات والكبوات والأخطاء فثمة آليات لكبح جماحها، ومحاسبتها.

وأخيراً: إذا كانت الحكومة الرشيدة تتطير من الحزبية وتتوجس من اسمها وفعلها وممارستها، فيمكن لها نعت الأحزاب بالمنابر أو أي اسم دال يحقق الغاية منها، وربما يفضي إلى غياب حالة الشلل والتأزيم التي تجثم على كاهل البلاد، من جراء كثرة التكتلات التي ينسحب عليها القول الإلهي «كل حزب بما لديهم فرحون»!.