Ad

إن الولايات المتحدة التي تسعى بكل جهد وقوة إلى ضمان أمن إسرائيل، وجدت أن الصراع في لبنان خلق عدم الاستقرار الذي يؤثر بشكل مباشر في عمل الآلة العسكرية الإسرائيلية، وربما في المستقبل القريب سيؤثر في التحالف المستمر بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ تجد أميركا نفسها عاجزة عن تقديم المساعدات لإسرائيل من دون حساب.

في الوقت الذي يرهق الجسمُ السياسي اللبناني، بمواليه ومعارضيه، فئات الشعب، بأمور لا علاقة للمصلحة الوطنية بها، والتي يدعون الحفاظ عليها والعمل من اجلها، وبأسلوب اقل ما يقال به انه اعلى درجة او نصف درجة من اساليب ابناء الشوارع... في الوقت نفسه تعمل القيادة العسكرية في «اليرزة»– كعادتها– بصمت، وبعيداً عن الاضواء على تثقيف ضباطها، كباراً وصغاراً واطلاعهم على حقيقة ما يجري حولهم من احداث تمس المصير اللبناني والعربي معاً.

وفي سلسلة حملة التثقيف هذه، عُقِدَت في احدى قاعات «اليرزة» العسكرية في بداية الشهر الماضي ندوة مغلقة (Seminar) دُعِيَ اليها عدد من كبار المحللين السياسيين والعسكريين الدوليين، وبالرغم من الطابع السري لهذه الندوة، فإن بعض ما حصل في داخلها من نقاش موضوعي واقعي تسرب الى خارج قاعة الندوة.

بين يديَّ الآن نسخة شبه كاملة عن فحوى المحاضرات التي ألقيت في الندوة، لعل في نشر بعضها ما ينقل عدوى الثقافة الى الغارقين حتى الأذنين في حوار الطرشان، دون الاعتداء على مبدأ السرية الذي طـُلِبَ في ان احافظ عليه؛ لذلك لن اذكر اسماء المحاضرين الذين اشتركوا في هذه الندوة، ولا اسماء الضباط الكبار او الصغار الذين وجهوا الأسئلة. بل سأكتفي بالزَبد وارمي جانباً القشور.

* * *

• المحاضر (اميركي الجنسية): الولايات المتحدة هي القطب الأعظم الذي يمارس الهيمنة في جميع مناطق العالم التي له مصالح حيوية فيها دون ان يتمكن من ادارة الصراعات الإقليمية وتفاعلاتها بصورة تحمي هذه المصالح. وعندما ننظر في العمق نكتشف ان الولايات المتحدة فقدت القدرة على ادارة الصراعات الاقليمية، انها خطوة نحو الوراء. وفي الوقت نفسه هناك خلط في القراءات العربية لمكونات ادارة بوش: تشيني لا ينتمي الى المحافظين الجدد بل ينتمي الى المدرسة الواقعية (Realist) المغرمة باستخدام القوة على حساب الدبلوماسية لحسم اي صراع اقليمي، فالمهمة الاولى لهذه المدرسة وزعيمها تشيني هي إزالة مصادر التهديد وخصوصا في منطقة الخليج، ومن هنا جاء اسقاط نظام صدام حسين بمعزل عن موضوع اسلحة الدمار الشامل. والمهمة الثانية هي اعادة صياغة خريطة تحالفات الشرق اوسطية الإقليمية بصورة تقلّل من مساحات الحركة للقوى المناوئة للسياسة الاميركية، وهذه القوى هي: ايران وسورية وحركات المقاومة الممثلة حالياً في «حزب الله»

و«حماس». ان «جردة حساب» لسياسة بوش تدل على انها اخفقت في تحقيق هذين الهدفين. صحيح انها اطاحت بنظام صدام حسين لكن التهديدات الموجهة الى المصالح الأميركية في العراق مازالت قائمة، وربما هي اكثر عمقاً مما كانت عليه ايام صدام حسين.

خريطة الشرق الاوسط بعد حرب العراق افرزت مساحات واسعة للقوى المناوئة للولايات المتحدة، والشيء الاكثر خطراً من ذلك هو ان حلفاء الولايات المتحدة اصبحوا يتحركون ضمن مساحة استقلالية ذاتية تتزايد باطراد وتبتعد عن السياسة الاميركية.

لا يمكن ان نفهم الدور المصري والسعودي وجزءاً من الدور الأردني الا في اطار المساحة الاستقلالية عن الدور الذي رسمته الولايات المتحدة، وهذا في حدّ ذاته، يشكل فشلاً ذريعاً للاهداف التي سعت اليها ادارة بوش. لقد تراجعت مساحات الحركة للولايات المتحدة داخل منطقة الشرق الاوسط، صحيح ان هناك وجودا عسكريا غير مسبوق في العراق وفي الخليج، لكن مساحة الحركة اصبحت اليوم اكثر ضيقاً مما كانت عليه قبل وصول ادارة بوش الى البيت الابيض.

للولايات المتحدة دور رئيسي في العراق، لكنها ليست القوة الوحيدة، فهناك قوى اقليمية اخرى تنافسها وتنازعها، والاكثر اهمية وخطراً ان حلفاءها في المنطقة صاروا يبحثون عن امكانية زيادة مساحات تحركهم المستقلة عن القرار الاميركي، كل هذا يشير الى انكماش وتضاؤل في الحركة الاميركية.

«حزام الازمات» هو ما تعنيه الازمات المختلفة التي تهدد المصالح الأميركية وعلى رأسها الحفاظ على السيطرة الكاملة على النفط وضمان امن اسرائيل. ونظرة في العمق الى ما يحدث الآن تجرّنا الى القول إن اسقاط نظام صدام حسين ونظام طالبان في افغانستان قد ساهما بشكل كبير جداً في تصاعد النفوذ الايراني، وهذه النظرة لا يختلف عليها اثنان بالرغم من ان ادارة بوش لا تعترف بحقيقة وجودها. واريد ان افصل بين حديث الاعلام الاميركي وبعض الدوائر الاميركية والعربية بشأن تصاعد المدّ الشيعي وخطره على المنطقة وبين الحقيقة والواقع، فإيران لا تتحرك في العراق فحسب، ولا تتحرك فقط، كقوة اقليمية، في الخليج، لكنها تتحرك وبنشاط في عدة محاور عربية، انظروا الى فلسطين والعلاقة مع «حماس». صحيح ان ايران ليست القوة الوحيدة الفاعلة في غزة، لكنها اصبحت احد الفاعلين الرئيسيين، وبات لها وزن لا يمكن نكرانه في كل الصراعات في العالم العربي غير الشيعي، في لبنان وكذلك في فلسطين. انظروا الى مشكلة العراق... والعراق مازال يشكل تهديداً مضاعفاً على المصالح الاميركية، لقد «اكتشفت» الولايات المتحدة وببساطة ما سمي بـ«مجالس الصحوة» وبعدها اكتشفت ايضاً وببساطة، ومن خلال تجربة مجالس الصحوة هذه، أن لا حلفاء ثابتين لها في العراق. ازمة الولايات المتحدة الحقيقية ليست في استمرار الانفلات الامني، وكذلك ليست في مواجهة تنظيم «القاعدة»، بل هي ازمة دولة احتلال، انها ترغب في ادارة المشهد السياسي العراقي من خلال علاقات ثابتة مع قوى داخلية لكنها تكشف باستمرار ان لا قوى محلية ثابتة لديها، وان القوى التي تخترعها سرعان ما تنقلب عليها، هناك اطراف شيعية تتحالف مع الولايات المتحدة، ثم تترك هذا التحالف وتذهب في اتجاه آخر، اطراف سنية تقوم اليوم بالدور ذاته.

هناك تقارير سرية تتحدث عن تغيير في ولاءات مجالس الصحوة، وهناك من اعتبرهم الاميركيون حلفاء رئيسيين صاروا اليوم في الاتجاه الآخر. ان هذا الوضع غير الثابت يجعل من المستحيل على الولايات المتحدة ان تعثر على «استراتيجية الخروج» (Exit Strategy) لأنها لم تعثر الى الآن على الحلفاء الثابتين الرئيسيين.

لننظر الى التهديدات التي تمثلها الصراعات في لبنان، مرة اخرى، وفي قراءة موضوعية، فإن الولايات المتحدة التي تسعى بكل جهد وقوة الى ضمان امن اسرائيل، وجدت ان الصراع في لبنان خلق عدم استقرار، الذي يؤثر بشكل مباشر في عمل الآلة العسكرية الاسرائيلية، وربما في المستقبل القريب سيؤثر في التحالف المستمر بين الولايات المتحدة واسرائيل إذ تجد اميركا نفسها عاجزة عن تقديم المساعدات لإسرائيل من دون حساب.

ان تعاظم الصراع في لبنان وفي البلدان العربية اذا ما اضفناه الى التراجع الاميركي، سيدفع واشنطن الى اعادة النظر في السير بسياستها الإسرائيلية، حفاظاً على استمرار دوائر نفوذها، وعندما يقع ذلك تحدث الكارثة في اسرائيل.

الخلاصة: اذا نظرنا الى ادارة بوش وسياستها في الشرق الاوسط من عام 2001 حتى نهاية عام 2007 نجد انها اعتمدت مقاربة المواجهة العسكرية وألغت فاعلية المقاربة الدبلوماسية السلمية. وفي عام 2007 اعتمدت الولايات المتحدة سياسة خاطئة في مقاربتها مع حلفائها التقليديين في الخليج، وهي سياسة فرض الاوامر بعيداً عن الحوار الذي يضمن مصالح الحلفاء. والدليل الثابت هو ما يحدث في لبنان حيث تعتمد واشنطن على سياسة الغالب والمغلوب بين حلفائها وخصومها متجاهلة خصوصية وتركيبة هذا البلد، وبالتالي صعوبة نجاح هذه المقاربة.

* كاتب لبناني