نقد أنابوليس ونقد النقد

نشر في 02-12-2007
آخر تحديث 02-12-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

إحدى مآسي العالم العربي خلال العقود الثلاثة الماضية، أن وقع الانقسام فيه بصورة ثنائية تقريباً بين مقاربتين أو مدرستين في التعامل مع القضية الفلسطينية: مدرسة تقوم على التخاذل شبه الكامل ومدرسة تقوم على الرفض شبه المطلق، ويؤدي اقتسام الفكر العربي بين هاتين المقاربتين إلى تأخر نمو بديل ثالث.

يجتاح الموقف الناقد لمؤتمر أنابوليس الإعلام العربي، فالمؤتمر عُقد فجأة لفرض التطبيع قبل التحرير على الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، وهو يعقد في ظل «وعد بوش» المشؤوم الذي قدمه لشريكه شارون في نيسان عام 2004، وفي هذا الوعد رفض تام لحق العودة ولحدود الرابع من يونيو عام 1967 وتأكيد على «يهودية دولة إسرائيل»!

والرئيس الأميركي بوش كرر في كلمته في افتتاح المؤتمر نفس هذا الوعد لاسرائيل، والواقع أن المؤتمر يمكن أن يكون نكسة كبيرة فيما يتعلق بمبادئ التسوية السياسية، حتى بالمقارنة مع اتفاق أوسلو ومفاوضات كامب ديفيد الثانية. فإلى جانب الإلغاء الفعلي لحق العودة، فالتأكيد على «يهودية» دولة إسرائيل، كما يصر اليمين الإسرائيلي والأميركي الحاكم، يمكن أن يوظف يوماً ما كذريعة لحرمان عرب 1948 من حقوق المواطنة في إسرائيل، وربما تهجيرهم بالقوة إلى «دولة» أو بانتوستان فلسطيني.

وفوق ذلك، فموقف إسرائيل اليوم من القدس الشرقية متراجع حتى بالمقارنة مع موقفها في طابا عام 2001، ويرجح أن يتجمد الموقف الإسرائيلي عند نية ضم مساحة كبيرة من الضفة، خصوصاً المساحة الواقعة في محيط القدس الكبرى، بتعريفها الإسرائيلي، وحيث تقع المستوطنات الإسرائيلية الكبيرة أيضاً.

واضافة إلى تعاظم التشدد في الموقف الإسرائيلي من قضايا الوضع النهائي، فليس هناك ما يطمئن إلى استعداد إسرائيل لبناء سلام حقيقي على الإطلاق، ومن الواضح أن إسرائيل تواصل سياسة تأليب الفلسطينيين بعضهم على بعض ودفعهم إلى حرب أهلية من خلال ما يسمى بخريطة الطريق. والهدف من ذلك هو فرض حقائق سكانية وسياسية داخل المجتمع الفلسطيني تتفق مع نية تحويله إلى «معازل» متفرقة وفاقدة للوحدة العضوية فيما بينها.

رؤية الدولة الفلسطينية الواحدة

هذه هي اللوحة العامة للنقد السياسي الموجه لمؤتمر أنابوليس من غالبية تيارات الفكر والسياسة في العالم العربي.

عشرات الألوف من الفلسطينيين نزلوا يوم الثلاثاء الماضي إلى شوارع غزة، وحاولوا النزول إلى شوارع رام الله ومدن الضفة الأخرى لولا تصدي الشرطة العنيف لهم، للتعبير عن رفض مؤتمر أنابوليس.

ولكن النقد الذي قدمه المعارضون في هذه الحالة لم يكن نقداً سياسياً ولا تاريخياً ولا محدداً، بل شيء آخر.

وأعتقد أننا يجب أن نقدم نقداً لهذا النقد، وإلا لن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام في البحث عن استراتيجية تحقق الفعالية والتراضي القومي العام.

وأول مجال لنقد هذا النقد الأخير في شوارع غزة، أنه لم يتعلق بمؤتمر أنابوليس ولا بأي مؤتمر آخر! بل كان رفضاً لصور وتعبيرات وقنوات وآليات التفاوض جميعها مع إسرائيل، من أجل الوصول إلى حل سلمي للصراع.

لم تكن الألوف التي تحركت في شوارع غزة تقدم «نقداً» لمؤتمر أنابوليس، وإنما كانت تقدم نقداً للحل السلمي للصراع أصلاً، بل وتقدم «رؤية» حماس والجهاد الإسلامي للصراع باعتباره صراعاً أبدياً مطلقاً لا مكان فيه لحل سلمي ولا يقبل غير الحل العسكري وحده.

لدينا هنا إذا «رؤية» متعددة المستويات. ففي القلب من هذه الرؤية نجد تمنيات تقوم على دولة فلسطينية واحدة، وليس على دولتين، فالحل المقبول الوحيد هو تحرير فلسطين التاريخية كلها بالقوة المسلحة، ويختلف هذا الشعار عما يقول به اليسار؛ وهو «دولة ديموقراطية علمانية فى كل فلسطين تحت الانتداب». فالتيار الإسلامي يرى فلسطين تحت الانتداب دولة «إسلامية»، ربما يكون فيها وجود يهودي محصور، وإن لم يصرح أبداً برأي فيما يتعلق بهذا الجانب.

ومن ناحية ثانية، فحيث أنه يطلب عودة كل فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، فلا مجال لأي حل وسط ولا مجال لأي حل تفاوضي بالأصل، ويعني ذلك باستنباط بسيط أن الحل الوحيد الممكن - برأي حماس والجهاد - هو الحل العسكري، وعند مستوى ثالث هو «يؤمّن» احتكار هذه الرؤية للوطنية والإيمان الديني بأن يوصم كل رؤية أخرى بالخيانة، بما فيها بالطبع رؤية الدولتين وبغض النظر عن التفاصيل أو المسافة الكبيرة بين المفهوم العربي وممارسات أبو مازن التفاوضية - ورقة بيلين أبو مازن مثلاً - وتفسير أو وعد جورج بوش!

المشكلة المنهجية

والواقع أن إحدى مآسي العالم العربي خلال العقود الثلاثة الماضية، أن وقع الانقسام فيه بصورة ثنائية تقريباً بين مقاربتين أو مدرستين في التعامل مع القضية الفلسطينية: مدرسة تقوم على التخاذل شبه الكامل ومدرسة تقوم على الرفض شبه المطلق، ويؤدي اقتسام الفكر العربي بين هاتين المقاربتين إلى تأخر نمو بديل ثالث.

نعرف «تراث» المقاربة الأولى بدءاً من الأمير عبد الله مؤسس المملكة الهاشمية، مروراً بالرئيس المصري أنور السادات ووصولاً إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، هذا التراث لا يتبلور فى نظريات ولا دفاعات أكاديمية، لأنه قام على ممارسات سياسية، وهو يوصم بالتخاذل لأن نقطة الابتداء فيه هي الرهان على الدور الأميركي والغربي، في الوقت نفسه الذي تترك فيه منصة الكفاح الضروري لتجاوز جذري للخلل في الموازين الاستراتيجية بين العرب وإسرائيل، ولذلك ينتهي الرهان على الدور الأميركي بسلسلة من التنازلات الجوهرية ومن دون الوصول أبداً إلى حل عادل وشامل ودائم للصراع.

نعرف هذا التراث ونحاكمه يومياً تقريباً في الإعلام العربي.

أما المقاربة المناقضة، فهي لا تتعرض لأدنى محاكمة أو نقد لأسباب كثيرة، فهي الرؤية المشتركة ضمناً بين أقوى تيارات السياسة العربية: أي التيارين الإسلامي والقومي العربي، وهي أيضا الرؤية التي «تدفع» المهانة عن الكرامة العربية في الوقت الذي تتعرض فيه للإذلال، وهي الرؤية التي تستجيب للرغبة اليومية في الثأر من سيل أعمال الإجرام الإسرائيلية اليومية، وأغلبها أعمال لا مبرر فني لها والمقصود منها هو روح التدمير للأساس المعنوي للمقاومة. وأخيراً فهي رؤية «ثبتت سلامتها» في الواقع في التجربة اللبنانية، عندما أجبرت قوات الاحتلال الاسرائيلية على الانسحاب من الأرض التي احتلتها في جنوب لبنان منذ عام 1974.

غير أن جميع هذه الاعتبارات الوجيهة لا يجب أن يعفي هذه الرؤية من النقد.

الموقف الذي عبرت عنه جماهير «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في غزة يوم الثلاثاء الماضي، الذي درجت «حماس» على إبرازه بصورة دائمة، يرفض جميع الحلول التي تقوم على مفهوم الحل الوسط أو الدولتين، إن أي نوع من السلام مع إسرائيل مرفوض وأي «تنازل» عن أي جزء من فلسطين التاريخية خيانة!

ومن المؤكد أن هذا كان هو الموقف العربي المبدئي السليم قبل قرار الأمم المتحدة (181)، أما اليوم فهو لم يعد يحمل تفسيراً واحداً: أي رفض «التنازل عن أي شبر من فلسطين»، بل يمكن أن يقبل تفسيراً آخر ومضاداً تماماً، وهو تأبيد الاحتلال! والواقع أن هذا هو النقد الجذري لهذا الموقف، فإدانة أبو مازن بالخيانة لأنه «يتنازل» عن أي شبر من فلسطين هو موقف ملتبس، لأن أبو مازن لا يملك السيادة الفعلية على أي شبر من فلسطين، بل يريد استعادة بعض فلسطين، أي أن هذا القول يقود موضوعياً إلى تمكين إسرائيل من الاحتفاظ بالسيطرة على كل فلسطين، وبتعبير آخر فرفض المفاوضات أصلاً لاستعادة أي جزء من فلسطين يعني في الواقع إطلاق يد إسرائيل في امتلاك كل فلسطين!

والواقع أن هذا هو ما حدث تاريخياً، لاسيما بعد تجاوز إسرائيل خطوط التقسيم المنصوص عليها في القرار (181)، فلو أننا خضنا مفاوضات في ذلك الوقت من عام 1948 أو 1949 لتأسيس دولة فلسطينية، وبعد أن تأكدت هزيمة العرب بل وبعد أن تأكدت حقيقة أنه لن يكون هناك في الواقع أو المستقبل القريب نظم عربية راغبة وقادرة على النضال بصورة محددة لاستعادة الأرض التي فقدتها في الحرب، لكان الموقف الاستراتيجي تغير جوهرياً، ولو أننا فعلنا عبر منهجية تفاوضية تستند إلى قدرات فعلية، لربما تمكنّا من استعادة القطاع المخصص للعرب، فضلا عن إعادة ولو نسبة ما من اللاجئين كشرط لدخول إسرائيل للأمم المتحدة.

وفي المقابل، فإن الرفض التام للتفاوض يعني في الواقع تجاهل عنصر الزمن تماماً، وهو أمر يحيل هذا الموقف إلى منهجية إيمانية ويبعده تماماً عن منهج السياسة، وبتعبير آخر، فإن هذا الموقف يؤبد واقعياً حرمان الفلسطينيين من أي شيء لقاء وعد إلهي ومن دون أطر زمنية محددة بالنصر في نهاية المطاف والحصول على كل شيء!

الحل العسكري؟

حجر الزاوية في النقاش كله في الحقيقة، هو الدعوة إلى الحل العسكري الكامل والمطلق للصراع حول فلسطين.

والواقع أنه لم توجد دولة عربية واحدة، بما فيها مصر الناصرية، راغبة في الأخذ بالحل العسكري المطلق، أي الذي يستهدف تحرير فلسطين من البحر إلى النهر بالوسائل العسكرية. بل ويستبعد أن تتوافر مثل هذه الدولة في الأمد المنظور. ومع ذلك فإن المشكلة الأهم هي أن هذه الرؤية لم تستند أبداً على حجية فكرية واضحة تثبت نظرياً إمكان الحل العسكري وفي مدى زمني مقبول ومعقول، وهي تكتفي بالحجية الإيمانية من طراز الشعار «خيبر خيبر يا يهود... جيش محمد سوف يعود»، وهو شعار ضار على كل المستويات، بل ويدعم موضوعياً الموقف المتخاذل، وهذا هو ما سنثبته فى الأسبوع المقبل.

وللنقد بقية...

back to top