مؤمن أنا أن كل شيء ليس له علاقة مباشرة بالشعر شيء حتّمته ضرورة العيش، وذلك مثل الزواج، وتربية الأولاد، والعمل، وحضور المناسبات الاجتماعية، والصداقات الفائضة عن الحاجة، وابتسامات المجاملة... إلخ، إلا أن الأشياء التي ترتبط بالشعر ارتباطا وثيقا ومباشرا هي أشياء تحتمها ضرورة الحياة! وبالنسبة إليّ هناك فرق شاسع بين أن تعيش وأن تحيا، بين الكائن الذي يمارس العيش، والكائن الذي يمارس الحياة.

Ad

أن تعيش هذا يعني أنك تمارس أنشطة لها علاقة بمتطلبات وجودك ضمن جماعة، تحاول قدر استطاعتك مراعاة مصالحهم، وأمزجتهم، ومشاعرهم، وقوانينهم، وشروطهم للوجود بينهم، للتمكن من توفير احتياجاتك المعيشية أيّا كانت تلك الاحتياجات، لتعيش لابد أن تعي أين تتقاطع مصالحك مع مصالح الغير، وكيف يمكن توسيع دائرة التقاطع، ولكي تفعل ذلك لابد لك أن تكون دبلوماسيا في تعاملك مثلما يقولون، او ذئبا، أو منافقاً، أو مهادنا، أو أن تعرف كيف تنحني في وجه الريح، أو أن تضع الخطط الاستراتيجية لعلاقاتك مع الناس، المهم أن كل تلك السلوكيات، والحيل بهدف الحصول على مكتسبات مادية أو بهدف الحفاظ عليها.

أما أن تحيا فذلك يعني، أنك قادر على ملامسة جوهر الحياة، والتوحد مع تفاصيلها وإبداعاتها المختلفة، وأن تغريك أصغر ملامحها، تشدك الوردة الندية التي للتو فتّحت للصباح وشرّعت أبواب فتنتها، مثلما تشدّك الوردة الذابلة المرماة على جانب الطريق ان أدّت مهمتها في بعث التفاؤل والامل في نفس مريض ما مثلا!

كلا الوردتين تحرضان ذهنك على التأمل، وقلبك على الامتلاء بفلسفة الحياة.

أن تحيا فذلك يعني أنك قادر على إعادة النظر في آرائك الوجودية ربما لحظة قراءة قصيدة، أو سماع قطعة موسيقية، أو انهيار مبنى سكني على رؤوس قاطنيه نتيجة جشع كل من المالك والمقاول.

أن تحيا، فذلك يعني أنك قادر على الحب، وقادر على العطاء، وعلى الإحساس بآهة غيرك، والتفاعل مع بسمة رضاه، وأن تأخذ بيدي الآخر الضريرتين إلى ينابيع النور التي تعرفها روحك.

ممارسة الحياة فعل له علاقة بإنسانيتك الصافية، المفلترة، الخالية من شوائب احتياجاتك لتوفير لقمة العيش، وله علاقة بتواصلك مع إنسانية الآخر بعيدا عن دائرة المصالح المادية التي تربطكما معا، بل رغما عن تعارض هذه المصالح، وله علاقة بالقدرة على رؤية صورتك الملأى بالنقاء، والصفاء، والنورانية.

ممارسة العيش قد تساعد على تقصير العمر، لما يصاحبها من ضغط نفسي وعصبي، ومشاعر سلبية، كالقهر، والكبت، والازدواجية، بينما ممارسة الحياة تطيل العمر، وتثريه، تجعله غنيا باللحظات الزمن اليانعة، والتي وقفت على جوهرها عند مرورك بها، ممارسة الحياة تعطيك الحكمة لتتمتع بعمرك مضاعفا.

لا شك أن الصورة في ان تحيا أكثر نضارة وبهاء من أن تعيش، ولكن المؤسف أننا في الغالب نخضع لشروط العيش وليس لشروط الحياة، لأن تلك الشروط أكثر إلحاحا وشراسة، كما ان المجتمع يحاول بكل السبل إلى إخضاعنا ضمن دائرة الذين يبحثون عن العيش، لا عن الحياة، ليتمكن من السيطرة علينا واقتيادنا والتحكم بنا، ولا مفر من ذلك إلا بالانعتاق لدائرة الحياة.