السلطة وظلالها

نشر في 16-11-2007
آخر تحديث 16-11-2007 | 00:00
 محمد سليمان

الوظائف العليا للمبدعين والمفكرين تعني الاقتراب من مراكز السلطة وصانعي السياسات، وتعني أيضاً إلزام المبدع أو المفكر أو رجل الدين بدعم سياسات قد تختلف أو تتناقض مع أفكاره وقناعاته وتجعله بالتالي ينقلب على ذاته أو يصطدم بالسلطة ومشاريعها، لينفتح الباب واسعاً أمام أشكال الإيذاء كلها.

لا أحد يتوقف كثيراً عند منصب الوزير الذي شغله طه حسين أو المناصب والوظائف، التي شغلها توفيق الحكيم أو نجيب محفوظ أو يحيى حقي أو يوسف إدريس، ولا أحد من دارسي شعر ومسرح صلاح عبدالصبور سيهتم بمنصب رئيس هيئة الكتاب الذي شغله الشاعر قبيل وفاته. بوسعنا أن نورد العديد من الأسماء لشعراء وكتاب وصحافيين ورجال دين ومفكرين كانوا أكبر من مناصبهم، وقد استطاعوا في معظم الأحوال أن يرقوا بهذه المناصب وأن يضيفوا إليها مهابة و«مكانة» لا حدود لهما. وكنت ومازلت أشفق على هؤلاء الكبار، خصوصاً الكتاب والمبدعين منهم، من شغل هذه المناصب والوظائف التي تربكهم وتجور على مشاريعهم الفكرية والإبداعية وتجبرهم على اكتساب مهارات وظيفية معينة، تعينهم على إرضاء المسؤولين وعلى الدفاع عن مقاعدهم، وكذلك السياسات التي يكرسونها ربما على حساب أفكارهم وتوجهاتهم وصورهم التي ترسخت في وعي المتلقين، ولاسيما أن هذه الوظائف العليا تعني الاقتراب من مراكز السلطة ومن صانعي السياسات، وتعني أيضاً إلزام المبدع أو المفكر أو رجل الدين بدعم سياسات قد تختلف أو تتناقض مع أفكاره وقناعاته وتجعله بالتالي ينقلب على ذاته أو يصطدم بالسلطة ومشاريعها، لينفتح الباب واسعاً أمام أشكال الإيذاء كلها.

أظننا لم ننس المفكرين والكتاب والأكاديميين الذين عانوا على مدى نصف قرن الاعتقال والحصار والطرد من الوظائف. وأظننا نتذكر حكاية السادات ويوسف إدريس التي جرت وقائعها قبل نصف قرن، عندما كان السادات رئيساً لتحرير جريدة «الجمهورية» المصرية... وبسبب كسله وانشغاله بأمور وأعباء أخرى، كان يترك لكُتّاب الجريدة مهمة كتابة مقاله الذي يتصدر الجريدة ويوقَّع باسمه.

وحدث أن سأل الرئيس عبدالناصر السادات ساخراً متى أصبحت يسارياً؟ فغضب السادات على يوسف إدريس كاتب المقال واستدعاه إلى مكتبه ليقول له: بسبب مقالك «الأحمر» فصلناك من الجريدة، فرد إدريس قائلاً: سأعود إلى عملي في أمانة المؤتمر الإسلامي، فسارع السادات بالقول: وقد فصلناك أيضا من المؤتمر، فرد يوسف ادريس قائلا أنا طبيب منتدب من وزارة الصحة وسأعود إلى ممارسة مهنتي الأصلية، فقال السادات: وقد اتصلنا بوزارة الصحة وتم فصلك من وظيفتك بها...

هكذا وجد إدريس نفسه في الشارع بلا عمل أو مورد رزق لأنه في المقال المذكور لم يذب في شخصية السادات ولم يصر ظلاً له. وأظننا لم ننس ما فعله السادات أيضا عندما صار رئيساً للجمهورية بالكتاب والمفكرين الذين وقعوا بيان توفيق الحكيم في أوائل السبعينيات.

● ● ●

في مقابل هؤلاء الكبار هناك آخرون يهينون أنفسهم ومناصبهم عندما يسعون جاهدين لكي يصيروا ظلالاً للسلطة ولصانعي السياسات؛ مثل بعض رجال الدين الذين يعدون وراء السلطة أو أمامها ويفتون مثلاً بجواز جلد الصحافيين والكتاب لكي يؤكدوا ولاءهم، وكمعظم رؤساء تحرير الصحف الحكومية الذين يخترعون واقعاً وردياً ويغشون أنفسهم وقراءهم عندما يتحدثون ويكتبون عن الديموقراطية التي ننعم فيها وعن تقدم أحوال الناس المعيشية وتحسنها، وعن مصر التي ستصبح نمراً اقتصادياً من دون أن يطلعوا الناس على مؤشرات التقدم وعلامات النهوض: هل هي في الديون التي تراكمت تلالاً؟ أم في انتشار البطالة وتوحشها؟ أم في الغلاء وقفزات الأسعار التي لا تجد من يلجمها؟ أم في تدهور مستوى التعليم والصحة وانتشار الأمراض بصورة غير مسبوقة؟ أم في سطوة الفقر وتحذير سبعين من نواب مجلس الشعب من «ثورة الجوع»؟ أم في الاحتكار وسيادة الفساد المالي والإداري؟ أم في ذلك الغرق المتكرر في البحر المتوسط لمئات الشباب المصريين الهاربين من بلادهم بحثاً عن فرص أفضل للحياة على الشاطئ الأوروبي؟

التقدم له طعمه وملامحه ورائحته التي يراها الأعمى ويستشعرها، والإنجازات التي يتحدثون عنها مازالت «سرية» حتى الآن، وأغلب الظن أنها قابعة هناك في مخيلة الحزب الوطني ولجنة سياساته التي تصر على وجود هذه الانجازات وعلى تحسن أحوال الناس بفضلها... وكالعادة لا تنتظر السلطة من الدائرين في فلكها والمرتبطين بها والطامعين في خيرها سوى المديح وتجميل القبيح والاستغراق في الكذب على الذات وعلى الآخرين.

* كاتب وشاعر مصري

back to top