فالنتاين والإمبراطور
الفالنتاين عيد عربي بامتياز، وعلى الأرجح، أن معظم بناتنا وشبابنا لا يعون هذه الحقيقة، لكنهم بالفطرة يحسون بالانتماء إلى القديس وإسقاطات أسطورته في مواجهة ذلك الإمبراطور الذي وصلت سطوته حد تقرير منع زواج رعاياه، بينما لا تزال صوره مرفوعة في معظم بلداننا السعيدة. يقرر ألا نتنفس، وألا نتكلم، وألا نبتسم.
بمناسبة الفالنتاين السعيد، انطلقت الرسائل الإلكترونية تعدو من عنوان إلى آخر محذرة من هذا العيد «المستورد». لأن «الاحتفال بالحب والغرام حرام وبدعة»، ولأن هذا العيد نصراني أو كافر لا يمت للإسلام بصلة، أو لأنه لا يتفق مع تقاليد مجتمعاتنا وأخلاقها الكريمة. وبعضهم يرى فيه مجرد مناسبة لتوسيع دائرة الاستهلاك المادي، حيث يرتفع سعر «الأحمر»، الورد منه خصوصاً، إلى أسعار قياسية. آخرون، يرون فيه تزييفاً للمشاعر ومظاهر نفاق لا أكثر. غيرهم، يعتبرون هذه المناسبات هدرا للطاقات التي يجب أن تحشد «للمعركة»، وإزاغة للنظر عن مواقف الممانعة والصمود والتصدي. فلا دعاة الدين ولا الأخلاق ولا حتى من يناهضون العولمة الثقافية أو من يحنون «للحب الحقيقي»، استطاعوا إقناع الملايين من شباب وصبايا العرب بالإحجام عن الاحتفال بما يسمى بعيد الحب. وفالنتاين المحب صاحب هذا العيد، وفقا لإحدى الأساطير التي تروي حكايته، وهي المفضلة لدي! كان كاهناً في القرن الثالث الميلادي في روما العظيمة، حين قرر الإمبراطور آنذاك منع الشبان من الزواج. ذلك أن جنوداً خاليي القلب والوقت والتفكير من حبيبة أو زوجة، هم أقدر على أداء مهامهم الصعبة من العشاق والأزواج، على ذمة الإمبراطور، وهو لا ريب محق في ذلك إلى حد ما. لكن فالنتاين، تحدى هذا القرار الظالم في رأيه، واستمر في تزويج الشباب والصبايا في السر، إلى أن كُشف أمره وحُكم عليه بالموت. والقصة تبدأ من هنا فقط. حيث إنه أثناء سجنه، وقع في حب ابنة سجانه، ولا نعلم بالظروف التي دفعتها إلى زيارته! ربما هو فضولها، أو أنها التقته مصادفة أثناء زيارة والدها! على أي حال، وقع المحظور، والتقت العيون وأطلق كيوبيد سهامه، وأصبح فالنتاين عاشقاً. وقبيل وفاته أرسل لحبيبته رسالة الحب الأولى وفقاً للتقليد الفالنتايني السائد حالياً. والأسطورة الجميلة هذه، فيها جميع العناصر المشوقة التي تدفع إنساناً عربياً أو من العالم الثالثي بشكل عام، للتعاطف مع بطلها والاحتفال بعيده، رضي من رضي وعارض من عارض. فالإمبراطور الذي وصلت سطوته حد تقرير منع زواج رعاياه، لا تزال صوره مرفوعة في معظم بلداننا السعيدة. يقرر ألا نتنفس، وألا نتكلم، وألا نبتسم أو نعطس، كي لا يغافلنا العدو من وراء تفاهات انشغالاتنا. ولأن الإمبراطورية كي تكبر وتقوى وتعمر، بحاجة إلى أبنائها وبناتها كافة، بصمتهم كله، وعذرية أفكارهم كلها. وفالنتاين الذي تحدى أوامر وقرارات رآها ظالمة وتفتقر إلى المحبة قبل كل شيء، وإلى التمتع بأبسط الحقوق وأكثرها بديهية على أرض المعمورة، مثل الزواج في عهده، والتنفس والابتسام والكلام في عهدنا، ومن ثم عوقب شر العقاب، لدينا أشباهه هنا وهناك، في هذه الزنزانة أو تلك. صحيح أن هؤلاء لم يقعوا في عشق بنات سجانيهم، لكن ذلك يعود على الأغلب إلى التطور والتعقيد الذي لحق بالسجون والسجانين على السواء! فالسجون الآن أكثر ظلمة وأشد إغلاقاً، أكثر تنظيماً وإحكاماً، كأهم صروح الإمبراطورية على الإطلاق. وبالتالي، فالفالنتاين عيد عربي بامتياز، وعلى الأرجح، أن معظم بناتنا وشبابنا لا يعون هذه الحقيقة، لكنهم بالفطرة يحسون بالانتماء إلى القديس وإسقاطات أسطورته. وعلى الأرجح، أن معظمهم لا يحفظ اسم أي فالنتاينيّ من العرب المعاصرين، وربما لم يسمعوا بهم حتى. لأن إعلام الامبراطوريات مجتمعة، لا يزال مشغولاً بالقرن الثالث للميلاد إياه وأحداثه الكارثية التي أنتجت هذا العيد الكارثي! لكن العبرة في النتيجة. الاحتفال بالحب وعيده وصاحبه، رفض لنقائض ذلك كله. ويا ليت المناهضين للفالنتاين نصرانياً كان أو متأمركاً أو متعولماً أو منافقاً، يحولون مناهضتهم تجاه الإمبراطور العتيد وأشباهه، فلولاه، لما كان فالنتاين ولا ما يحزنون. ولو فعلوا، لوفروا علينا وعلى مَن سبقونا ومَن سيلحقون بنا، دهوراً من الكراهية واللاعدالة والتسلط. ومن الدماء المسفوكة التي لا تثير حفيظتهم مثل ما تفعل الورود الحمراء والهدايا المغلفة بالأحمر. ولو كان لفتاواهم وفلسفاتهم وتنظيراتهم ضد الفالنتاين ومناسبات شبيهة، مثل ربع عددها ضد القمع ومحاولات توحيد البشر في واحد مستنسخ وكم الأفواه والحجر على العقول والسعي نحو «النصر» ولو على دمار «المنتصرين» البؤساء، لما كنا لا نزال نعيش على هامش الزمن الماضي. بالتأكيد لن يفعلوا، فهم، كل واحد منهم، إمبراطور في مواجهة فالنتاين الشجاع.* كاتبة سورية