Ad

إن الاستراتيجية التركية بدأت في إدارة وجهها مرة ثانية نحو العمق العربي مستيقظة على الحقيقة التاريخية، لا على حلم الانتماء إلى أوروبا... فالعودة إلى الشرق يجعل منها سيّداً مشاركاً، بينما الانتماء إلى الغرب لا يتعدى حدود العمالة.

بعيداً عما يجري من صراع دام ٍ بين تركيا والأكراد في شمال العراق، فإن شمس الأناضول عادت لتشرق من جديد في السماء العربية بعد غياب دام أكثر من مئة سنة. يصادف شروقها بدء غياب شمس مصطفى كمال أتاتورك الذي مازال ظله يحكم تركيا منذ وفاته في العاشر من شهر نوفمبر 1938.

الكتب التاريخية لم تذكر الشيء الكثير عن نشأة أتاتورك الذي أسس الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، تلك الإمبراطورية التي حكمت الشرق العربي ومغربه وجزءاً من أوروبا طوال 500 عام، وجاءت نهايتها على يد الحلفاء في أعقاب الحرب العالمية الأولى بعد أن تحالفت ضدهم مع ألمانيا القيصرية.

ما هو معروف في كتب التاريخ أن مصطفى كمال ولد في مدينة «سالونيكا» اليونانية عندما كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، من أب وأم تركيي الأصل. والده يدعى علي رضا أفندي وكان موظفاً بسيطاً في إدارة الجمارك، والدته اسمها زبيدة حنيم، امرأة بسيطة المنبت والثقافة كقريناتها في ذلك العصر. تاريخ مولد أتاتورك، كما هو مسجل رسمياً في تركيا هو 29 أكتوبر عام 1881 وتوفي في العاشر من نوفمبر 1938 عن عمر يناهز الـ57 عاماً. تزوج مرة واحدة ولفترة قصيرة لا تتجاوز السنتين (من عام 1923 إلى عام 1925) ولم ينجب أولاداً، فطلق زوجته التي كانت تدعى «لطيفة أوزا كليكيل».

توفي والده وهو في السابعة من عمره وتولت والدته زبيدة تربيته، وحسب التقاليد المتبعة فقد أُعطِي اسمه الأول مصطفى. خلال دراسته الابتدائية برزت مواهبه في علم الرياضيات فمنحه أستاذه اسمه الثاني «كمال»، إذ اعتبره هذا الأستاذ ممثلاً للكمال في دراسته وفي انضباطه كتلميذ مطيع خارق الذكاء. وهكذا بات يعرف، وهو في الثانية عشرة من عمره، باسم مصطفى كمال. ثم دخل الجيش وقفز سلم الترقيات بسرعة، وخاض معارك عديدة ناجحة في صفوف الجيش الإمبراطوري العثماني، وخدم في سيناء المصرية وفي فلسطين بين عامي 1917 و1918. بعد موت «الرجل المريض» وهو اللقب الذي أطلقه الحلفاء على إمبراطورية بني عثمان، إثر اندحارها في الحرب العالمية الأولى. قاد مصطفى كمال معارك الاستقلال ضد سعي الحلفاء إلى تقسيم تركيا في ما بينهم، كما هي العادة في نهاية كل الحروب، واستطاع أن يحافظ على أجزاء أساسية من الأرض التركية الأصل، إذ أسس الجمهورية التركية وكان أول رئيس لها. نتيجة لذلك منحه البرلمان التركي الجديد لقب «أتاتورك»، أي «أبو الأتراك»، وبات يعرف منذ ذلك الوقت باسمه الثلاثي مصطفى كمال أتاتورك. ورفع الزعيم التركي الشاب شعار العلمانية بديلاً عن النظام الإسلامي الذي كانت تتبعه الإمبراطورية العثمانية. ما لفت، ومازال يلفت، نظر المتابعين لهذه الحقبة، أن خصوم «الأتاتوركية» فشلوا، منذ وفاته إلى يومنا هذا، في دفن تراثه وذكراه والأسس التي وضعها واعتمدها كركائز أساسية لنظام حكمه. مثلاً، الزائر الرسمي لتركيا، مهما كان مركزه، يجب عليه حسب البروتوكول التركي أن يتوجه من المطار رأساً إلى قبر أتاتورك لتقديم الاحترام قبل البدء بزيارته الرسمية، مما دفع بعض الكتاب إلى القول إن أتاتورك الميت مازال يحكم ويتحكّم بتركيا وهو في مدفنه. وهناك قناعة بأن الحزب الإسلامي الحاكم اليوم يسعى إلى إعادة دفن أتاتورك مرة أخيرة ونهائية.

ما استوجب كتابة هذه الخلاصة هو أن تركيا مؤهلة اليوم لكي تؤدي دوراً استراتيجياً في شؤون منطقتنا العربية، ومن المفيد أن تعرف أجيالنا الشابة ونصف الشابة ما يمكن تسميته بـ«ألف–باء» التاريخ التركي الحديث. على أن ما يهم من طرح هذا الموضوع هو محاولة معرفة الدور التركي الاستراتيجي المستقبلي بالنسبة إلى الشأن العربي.

ما هو غير مكتوب، لكنه معروف، في سيرة أتاتورك، أن أول ما فعله بعد تسلمه الحكم واستتباب الأمر له، أنه أدار ظهره إلى الشرق حيث العمق العربي، ثم يمّم وجهه شطر الغرب. دفعه إلى ذلك عاملان اثنان: الأول رؤية سياسية-اقتصادية آمن بها أتاتورك ومازال يؤمن بها أتباعه، وهي أن مصلحة البلاد الحديثة يؤمنها الغرب العلماني، بعيداً عن تشنجات الشرق الديني. والعامل الثاني هو كرهه الشديد للعنصر العربي وتحميل العرب مسؤولية انتهاء الإمبراطورية العثمانية. وسارت السياسة التركية -ولاتزال- حسب مضمون العامل الأول في محاولة تحقيق «الحلم المستحيل» بجعل تركيا قلباً وقالباً قطعة من أوروبا لا علاقة لها بشؤون شرقها العربي ولا بشجونه ومشاكله. لكن الذاكرة الأوروبية لاتزال طرية العود، فهي لم تنس بعد الإذلال الذي شهدته على يد العثمانيين الذين احتلوا جزءاً من أراضيها لعدة مئات من السنين. وإذا نسيت أوروبا ذلك فإنها لن تنسى الواقع الجغرافي والديني لتركيا، وهي أنها دولة قامت على المبادئ الإسلامية ولاتزال تؤمن بهذه المبادئ بالرغم من المحاولات الأتاتوركية في جعلها دولة علمانية. لذلك فإن تركيا، كما تؤكد الأحداث اليوم، لن تدخل الحدود الأوروبية إلى حيث العمق الاجتماعي، وهي إذا دخلت فإنها لن تتخطى حدود العمل في مصانعها. وبتعبير أكثر صراحة فإن أوروبا تعتبر تركيا «عاملا ً» في مصانعها الكبيرة، له حقوق العمال لا أكثر. وهكذا بدأت تركيا اليوم تستيقظ ببطء على هذه الحقيقة بعد أن غاصت في حلم الأتاتوركية طوال المئة سنة الماضية، ونتيجة لذلك فإن الاستراتيجية التركية بدأت في إدارة وجهها مرة ثانية نحو العمق العربي مستيقظة على الحقيقة التاريخية، لا على حلم الانتماء إلى أوروبا... فالعودة إلى الشرق يجعل منها سيداً مشاركاً، بينما الانتماء إلى الغرب لا يتعدى حدود العمالة.

غير أن هناك عقبة تقف في طريق تفاهم الجانبين التركي والعربي تتمثل في التجارب السيئة التي لم تستطع الذاكرة العربية ولا التركية تخطيها إلى اليوم. منذ عدة سنوات، وقبيل الغزو الأميركي للعراق، اشتركت في ندوة مصغرة ومغلقة عُقدت في أنقرة حضرها عدد من المفكرين والكتّاب والصحافيين الأتراك، وبعض الزملاء العرب. موضوع الحديث دار حول إعادة الجسور بين تركيا والعالم العربي. دُهِشتُ إلى درجة الاستفزاز العنصري عندما استمعت إلى «معزوفة» عنوانها وفحواها «أن العرب خونة، وأنهم قاتلوا إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى ضد الدولة المسلمة الممثلة في الإمبراطورية العثمانية». والذين تولوا «العزف» بعض كبار المفكرين الأتراك. وكان لابدّ من رد التحية فأعدت إلى أذهان الحضور أن الإسلام يجب ألا يدخل في أسباب ومسببات انحياز العرب، بل الموضوع كله رغبة مشروعة في الخلاص من استعمار جمّد الفكر العربي طوال 500 سنة، وأن ما نعانيه الآن، كعرب، من تخلف وجهل هو نتيجة ذلك الاستعمار.

ما أريد قوله أن عقدة الخيانة والاستعمار لاتزال موجودة في عمق الفكر العربي والتركي معاً، ويجب السعي إلى عقد مصالحة تبقي ما مضى في الماضي، وتفتح صفحة جديدة تُبنى على المساواة في المصالح السياسية والاقتصادية. إن تركيا اليوم على أبواب نقلة نوعية تعيدها إلى المنطقة، لا كمحتل تحت شعار الإسلام، بل كشريك في الواجبات والحقوق المتساوية. إن تركيا اليوم بحاجة ماسة إلى العمق العربي لتنمية اقتصادها الذي بدأ يتعافى ولكن ببطء شديد. والعرب، اليوم، بحاجة ماسة إلى تركيا، سياسياً أكثر منها اقتصادياً، لحمايتهم من أطماع الطامعين بعد أن أصبح عمقنا الاستراتيجي مكشوفاً في الجهات الأربع.

من المتعارف عليه بين الذين يتعاطون العلم الاستراتيجي الدولي أن لكل إقليم عالمي «نادياً استراتيجياً» تشترك في عضويته دول الإقليم المهمة، في اتخاذ القرار الاستراتيجي الذي يخص إقليمهم. هذه النوادي موجودة وفاعلة في عدد من الأقاليم العالمية مثل إقليم أميركا اللاتينية، والإقليم الأوروبي والآسيوي. كذلك فهي موجودة في منطقة الشرق الأوسط ويتألف النادي من خمسة مقاعد دائمة العضوية تمثل الدول التالية: تركيا وإيران ومصر والعراق وإسرائيل.

مصر، بعد اتفاقيات كامب ديفيد، تغيبت بإرادتها عن حضور «الاجتماعات الدورية» لهذا النادي. لكن مقعدها مازال موجوداً ومحفوظاً غير أنه خال في معظم الأحيان. وقد تمكنت المملكة العربية السعودية، في بعض الأحيان من ملء هذا المقعد بحيث وقفت حائلاً دون اتخاذ أي قرار استراتيجي يضرّ بمصالح الطرف العربي. ومقعد العراق بات هو الآخر خالياً بعد الغزو الأميركي، وقد يبقى كذلك إلى أمد غير منظور. وإيران، في مرحلة ما بعد الشاه، تمسكت بمقعدها الدائم وهي تقاتل اليوم من أجل الحفاظ عليه وتفعيله. وتركيا بعد يقظتها، ترغب في حضور قوي لاجتماعات هذا النادي الاستراتيجي. أما إسرائيل فغني عن القول أن هدفها الأول وربما الأخير هو في إبقاء المقعدين العربيين خاليين.

إن نظرة فاحصة وعميقة إلى هذه الخارطة الاستراتيجية تظهر أن البلاد العربية اليوم تقع بين فكي كماشة لا ترحم: من الشرق إيران وطموحاتها للعودة بالتاريخ إلى الوراء، ومن الغرب إسرائيل وشهوتها المفتوحة لهضم مزيد من الأرض الفلسطينية تمهيداً لابتلاع أرض عربية أخرى.

من هنا تظهر الأهمية الاستراتيجية لتركيا بالنسبة إلى العرب اليوم. فهي في استطاعتها أن تشكل عازلاً بين فكي الكماشة المطبقين على الأرض العربية ومن عليها وما عليها، إلى أن يحين الوقت وتملأ كل من مصر والعراق مقعديهما في «النادي الاستراتيجي» الإقليمي. كذلك فإن تركيا بإمكانها أن تخلق نوعاً من التوازن يقي العرب شرور الأحلام الإيرانية والشهية الإسرائيلية.

هذا التوازن مطلوب اليوم أكثر من الخبز ومن الماء حسب التعبير المجازي الشائع. إن تركيا الجديدة، الصديقة قادمة بعد أن أدارت وجهها شرقاً، وعلينا أن نستعد لاستقبالها وأن نسرّع خطوات عودتها.

* كاتب لبناني