العائلة، تبدو من وجهة نظر فوكوياما، هي أكثر الأشكال العديدة لرأس المال الاجتماعي بداهة وطبيعية، إذ إنها هي التي تمنح الأفراد الثقة بالآخرين، وتمكنهم من إنشاء المؤسسات الاقتصادية الكبيرة الحجم، الأمر الذي يجعل أغلبية الأعمال التجارية في الماضي والحاضر أعمالاً عائلية.تقوم رؤى التحديث في الأساس على تغيير المجتمعات التقليدية، التي من الممكن أن تكون قبيلة أو قرية منكفئة على ذاتها ثقافيا، وغير مندمجة في المجتمع الواسع، ومكتفية اقتصادياً، وليست بحاجة إلى التجمعات البشرية الأخرى. فالتحديث يتطلب انتقال الولاء من الحيز الضيق إلى نطاق أوسع مرتبط بالدولة الوطنية، وتحول التناغم مع الجماعات العينية المباشرة كالعائلة والعشيرة والقرية إلى تفاعل مع تجمعات أضخم وأكثر تجرداً مثل الطبقة والأمة. وهذا يعني الخروج من دائرة «المجتمع القرابي» القائم على «رابطة الدم»، إلى آفاق حديثة، تقوم فيها الجمعيات المنظمة والمؤسسات العصرية بتأدية الدور نفسه الذي كانت تقوم به «العصبيات» في المجتمعات التقليدية.
وهنا لا تعد «القرابة» هي الإطار المرجعي الحاسم للممارسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كافة، إذ سيؤدي الانتقال الجغرافي وموجات الهجرة الداخلية باتجاه مواقع العمل الجديدة إلى ضعف الارتباط بالعصبيات العائلية والعشائرية، وتتراجع النظرة غير العلمية إلى العالم.
وفي غمرة هذا الجدل تنسى بعض النزعات الإصلاحية أن قديم الظواهر الاجتماعية لا يموت كاملاً، وأن المجتمعات الإنسانية لا تعدو كونها وثيقة من جلد رقيق يُقرأ الجديد فيها فوق القديم بوضوح وجلاء. فالطبيعة «الأركيولوجية» للمجتمع، بحسب تصورات الجيولوجيين، تجعل الجديد ينسلخ من ظهر القديم من دون أن يزيحه تماماً، بل إن عملية الانسلاخ هذه تبدو صعبة، ولذا لا يمكن أن يتجاهل التحديثيون وجود منطقة وسطى بين ما هو تقليدي وما هو عصري، يطلق عليها «التحول»، مما يعني في هذا المقام، التفاعل، الذي يصل في بعض المجتمعات إلى حد التصارع، بين القديم والحديث، وفي مجتمعات أخرى يتعايش الاثنان من دون أن يسبب ذلك أي اهتزاز لأركانها، نظراً لانتشار قيم التسامح والاستعداد للانفتاح على الآخر، فضلا عن الدور الذي تؤديه النخب في إدخال مظاهر التحديث إلى مختلف جوانب الحياة بطريقة متدرجة وملائمة.
وفي المقابل قد يبدو إضعاف نفوذ الجماعات، التي تتكتل وراء الظواهر التقليدية ولا تتفاعل مع التحديث، لأسباب أيديولوجية أو مصالح آنية، أمراً ضرورياً في كثير من المجتمعات حتى يمكن لرياح التمدن أن تهب بقوة وتأثير. لكن يبقى هناك اختلاف حول أساليب هذا الإضعاف ودرجته وتداعياته وجدواه في المدى القريب، خاصة أن «التقليدية» ليست شراً محضاً وأنها حامل لأفكار وسلوكيات مفيدة، ولذا فإن تطوير هذه الأفكار لتتماشى مع الحداثة هو الذي يجب أن يتم وليس وأد هذه الأفكار والقضاء على تلك السلوكيات.
وهذا الاختلاف إن كان يعبر عن المساحة الكبيرة التي أخذتها نظرية التحديث في الجدل العلمي المعاصر، فإنه يشير بجلاء إلى أن هناك من يؤمن بعدم اتخاذ هذه النظرية مساراً واحداً، يجب على الجميع أن يسلكوه حتى يمكن لهم أن ينجزوا مجتمعاً محدثّاً، وأنه من الضروري أن يكون لكل مجتمع إبداعه الخاص في التحديث بما يتوافق مع ظروفه وأهدافه. وهنا تستعيد «التقليدية» بجانبيها المؤسسي والفكري الكثير من نفوذها، خاصة أن العديد من الإصلاحيين لا يؤمنون بإزاحة القديم كله، الأمر الذي يعيد إنتاج الأفكار والتنظيمات التقليدية في تصورات وأشكال جديدة.
إن من يطالبون بتفكيك كل الأشكال الاجتماعية التقليدية يتناسون أن ال قبيلة هي أكثر الأبنية المجتمعية رسوخا وأكثرها تجذراً في الوعي والوجود البشري، وأنه على الرغم من أن ظهور الدولة القومية جعل القبيلة تتخلى عن وظيفتها السياسية والإدارية فإنها في معظم المجتمعات لاتزال تحتفظ باستقلالها الاجتماعي وشرعيتها الموروثة، بل إن بعض الدول في أفريقيا مثلاً لا تعدو كونها إعادة هيكلة للقبيلة، مع بعض مظاهر تحديث في الجوانب المادية.
وللقبيلة وظائف أساسية تتمثل في أنها هي التي توفر رابطة من الوحدة بين أفرادها عن طريق الاعتقاد الذي يسود بينهم في انحدارهم من أصل مشترك، عبر صلة الدم أو بالمصاهرة أو التحالف أو حتى صلة الاستلحاق، وهي التي تزود هؤلاء الأفراد بألوان الحماية كافة، وتنظم عمليات الزواج والطلاق، وتفصل في النزاعات التي تنشب بينهم. وهناك وظيفة اقتصادية للقبيلة ترتبط بتنظيم عمليات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك.
وقد ذهب الباحث الأميركي فرانسيس فوكوياما إلى ما هو أبعد من هذا حين أكد أن بعض الظواهر التي يتعامل معها كثيرون على أنها تقليدية؛ ضرورية لتمكين المؤسسات الاقتصادية والسياسية الحديثة من العمل بطريقة صحيحة. كما أن العائلة، تبدو في نظره، هي أكثر الأشكال العديدة لرأس المال الاجتماعي بداهة وطبيعية، إذ إنها هي التي تمنح الأفراد الثقة بالآخرين، وتمكنهم من إنشاء المؤسسات الاقتصادية الكبيرة الحجم، الأمر الذي يجعل أغلبية الأعمال التجارية في الماضي والحاضر أعمالاً عائلية.
ويضرب فوكوياما مثالا على ذلك بأن العائلات الممتدة كانت أساس المشروعات النشيطة الكبيرة الحجم في جنوب الصين ووسط إيطاليا، ليخرج من تحليله لظروف التنمية الاقتصادية في العديد من المجتمعات التقليدية بنتيجة مفادها أن الترابط الاجتماعي التلقائي له بصمة واضحة في الحياة الاقتصادية، إذ إنه يؤثر في البنية الكلية للاقتصادات الوطنية، وفي التوزيع القطاعي للصناعات وفي الدور الذي تشعر الدولة برغبة في أدائه، وفي الأصول اليومية التي يتعامل العمال في ظلها مع المديرين، وفيما بينهم أيضا.
* كاتب وباحث مصري