عدالة المنتصر!
المجتمعون الذين اجتمعوا وقرروا إنشاء ما عرف بعد ذلك بالأمم المتحدة، لم يكن لديهم تصور لماهية حقوق الإنسان. أراد الكبار أن يُشعروا العالم بإنسانيته من خلال عبارات منمقة وجمل مصفوفة لا أكثر ولا أقل، أما ما استأثروا به في المنظمة الجديدة فكان هيمنة كاملة على أهم مؤسسة داخل الأمم المتحدة، ألا وهي مجلس الأمن.
لم يكن صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر عام 1948 الذي يحتفل العالم بدخوله عامه الستين، إلا مؤشراً على تفاعلات الحقبة التاريخية التي ظهر بها، فصدوره لم يكن على أية حال نتيجة إيمان بالإنسان وحقوقه، كما لم تنته بصدوره معاناة الإنسان وسحقه وتهميشه والتمييز ضده، بل كان ذلك إيذاناً بحقبة جديدة من النفاق السياسي الذي طغى على الساحة الدولية التي حلت بعيد صدروه، فقد سيطر على الموقف «تجار الشنطة» ومحترفو «الثلاث ورقات» سيطرةً خلطت الأوراق وجعلت من الإنسان وحقوقه بوضعية مشابهة للكوميديا السوداء.فقد مرَّ العالم بتحولات تاريخية غيرت وجه التعاطي مع الأشياء وحددت صياغة العلاقات بين الدول. ولعل الحربين العالميتين الأولى والثانية كانتا من تلك اللحظات التاريخية التي تم فيها، ومن خلالها، تأسيس موازين قوى في العالم من خلال فرض الهيمنة ومعايير القوة المجردة المنعكسة بقدرات عسكرية ماحقة لا تبقي ولا تذر. وهكذا اجتمع «المنتصرون» في الحرب العالمية الثانية في سان فرانسيسكو بما عرف بمؤتمر «دومبارتون أوكس» في أبريل 1945. اجتمع الأربعة الكبار (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وفرنسا وبريطانيا) ليبحثوا في صيغة جديدة علاقات القوة على الساحة الدولية تسعى، ضمن ما تسعى إليه، إلى عدم تكرار الفشل الذي منيت به صيغة عصبة الأمم، التي ترتّب عليها نشوب الحرب العالمية الثانية. كانت ألمانيا النازية حينها قد انهارت وحسم الأمر بالنسبة إلى اليابان لاحقاً مع استخدام الولايات المتحدة القنبلة النووية في هيروشيما في أغسطس 1945، على الرغم من أن الدلائل التاريخية قد اثبتت أن اليابان كانت قد استسلمت قبل القنبلة، فإن الولايات المتحدة أصرت على استخدام ذلك السلاح الفتاك بكل قسوة متجاوزة بذلك كل قواعد القانون الإنساني الدولي.وقد أظهرت الحرب العالمية الثانية بشكل ملحوظ قسوة وبشاعة الإنسان ضد الإنسان والبيئة والحياة وكل شيء، وراح ضحيتها ملايين البشر في سبيل تأكيد حضارة مزعومة أو تفوق عنصري لأعراق على أعراق أخرى، فما نراه من «حضارة» اليوم، جاء عبر كراهية للآخر وتوجهات عنصرية بغيضة تحولت إلى حروب إبادة جماعية. ولم يقتصر الأمر على النازية والفاشية في أوروبا، ولكن يكفي أن نتابع المسلسل الياباني ضد الصين أو كوريا لنعرف حجم الكراهية الذي كان قد انتشر في العالم. وعبثاً حاول المنتصرون أن يضفوا شيئاً من الشرعية على انتصارهم دفعهم إلى إقامة محاكم «نورمبرغ» و«طوكيو» في ما عرف حينها بـ«عدالة المنتصر».اجتمع الأربعة الكبار في طقس ربيعي جميل في سان فرانسيسكو ليتباحثوا في كيفية اقتسام «الكعكة». كان الهم السياسي وترتيب علاقات القوة الدولية وربما بناء نظام دولي جديد هو الشغل الشاغل. عندما التقى الأربعة الكبار لم يكن في ذهنهم الإنسان ولا حقوقه، وربما كانت الدماء التي سالت والأفكار الشمولية والعنصرية التي أصبحت محوراً في العلاقات بين الدول آنذاك دافعاً لتلك الدول أن تظهر شيئاً من التجاوب حتى ولو على سبيل رفع العتب مع معاناة الضحايا والمسحوقين في العالم.ومع أن مصطلح «حقوق الإنسان» كان قد ذكر مرات عدة في ميثاق الأمم المتحدة الذي صدر في يونيو 1945، فإن الفكر الاستراتيجي لم يكن جاداً في احترام الإنسان أو حقوقه، ولربما كانت الشعارات التي أطلقها الرئيس الأميركي روزفلت قد ذكرت في ذلك السياق، حيث أكد الرئيس روزفلت أهمية الدفاع عن الحريات الأربع؛ وهي حرية التعبير، وحرية العبادة، والتحرر من العوز والحاجة، والتحرر من الخوف. عدا ذلك فإن المجتمعين الذين اجتمعوا وقرروا إنشاء ما عرف بعد ذلك بالأمم المتحدة، لم يكن لديهم تصور لماهية حقوق الإنسان. أراد الكبار أن يُشعروا العالم بإنسانيته من خلال عبارات منمقة وجمل مصفوفة لا أكثر ولا أقل، أما ما استأثروا به في المنظمة الجديدة فكان هيمنة كاملة على أهم مؤسسة داخل الأمم المتحدة، ألا وهي مجلس الأمن، حيث اعطوا لنفسهم حق النقض (الفيتو) ضمن نظام معقد يضمن لهم الحظوة والتفوق على النظام الدولي.وهكذا تأسست الأمم المتحدة، وحاول الكبار أن يجعلوا من المفهوم الغامض المعروف بحقوق الإنسان مجرد شعار ولافتة تعطي الهيئة الجديدة وجهاً حميماً إنسانيا، ولم يكن لا في نيتهم ولا تخطيطهم أن يخرجوا للعالم بمفاهيم متكاملة واتفاقيات ملزمة لحقوق الانسان، أما الشعوب المهمشة المسحوقة التي عانت الاضطهاد والبطش والإبادة فلا بأس أن نرمي لهم «بعظمة» اسمها الإعلان العالمي لحقوق الانسان، إلا ان الأمر لم يتوقف عند هذا الحد... وللحديث بقية.