الأزمة قد تم تضخيمها، إن لم يكن قد تم تصنيعها بالكلية، وذلك لضرب عدنان عبد الصمد بعينه وضرب التكتل الشعبي لدورهما المعروفين في التصدي لأبرز سراق المال العام، وهما مسعيان قد أصابا هدفهما إصابة مباشرة إلى حد كبير.من الصعب جداً في ظل حدث عاصف وصاخب أن يستطيع المرء أن يخرج من دائرة الحدث بحديث أو فعل، وأن يبقى في الوقت نفسه محل انتباه، وهذا أمر متوقع ومفهوم، فمَن ذا الذي سيجد آذاناً تصغي إليه إن هو تحدث مثلاً عن تلوث الهواء والبيئة في غزة هذه الأيام والناس تموت بالعشرات يوميا تحت قمع الصهاينة!
خلال الأيام الماضية كان من الصعب جداً أن نقدر على الكتابة عن شيء آخر غير موضوع «التأبين». لا أتحدث هنا عن القدرة الفيزيائية بطبيعة الحال، وإنما عن القدرة الذهنية والقدرة النفسية. كان صعباً عليّ شخصياً أن أجد اندماجاً في أي موضوع آخر، على الرغم من أن أجندتي تزدحم بعناوين وأفكار لمقالات محتملة، كأحداث غزة، وقضايا البدون المتجددة، ومؤتمر التعليم الذي جاء وذهب بلا فائدة واضحة، وكيف يتم تدمير الكويت بالبيروقراطية، وغلاء المعيشة وزيادة الرواتب، وإزالة التعديات على أملاك الدولة، والحملة الدانماركية الجديدة، إلخ.
كان من الممكن طبعاً أن أقفز بمقال إلى خارج دائرة «التأبين»، ولعلّه كان سيكون جيداً من حيث الفكرة، ولكن هل كان سيلامس نفوس الناس في العموم؟! لا أظن!
أعترف بأني كنت مضطراً للاستجابة لقضية «التأبين» بالرغم من أني كنت أراها مفتعلة كحال أغلب الكتاب، ولكن عذري وعزائي بأني على الأقل تناولت المسألة من زاوية التهدئة لا زاوية التأجيج كأغلب من كتبوا.
ما أريد الوصول إليه هنا هو أن بعض الأحداث، وبالأخص عندما تكون أحداثاً صغيرة ونجدها فجأة وقد انتفخت وتضخمت بفعل فاعل، قد يكون مقصوداً من ورائها اختطاف المجتمع والناس، واستلابهم من قضاياهم الأخرى الأكثر أهمية. وهذا ما حصل في تصوري في قصة «التأبين»، فلا يمكن أن أقتنع بأي حال أن هذا الاشتعال الضخم لهذه القصة، هو اشتعال تلقائي ومبرر لكون الموضوع متأججاً بذاته. نعم قد يكون الموضوع حساساً، ولكنه حتماً ليس على ذلك القدر ليشعل هذه الحساسية كلها التي أدت إلى هذا الصخب كله وتلك التفريعات السياسية والطائفية والمجتمعية جميعها، خصوصاً عندما نعلم أن مجتمعنا غير انفعالي ولا متفاعل بطبعه، وهو ما تركن إليه السلطة كثيراً في تعاملها معه!
الأزمة قد تم تضخيمها، إن لم يكن قد تم تصنيعها بالكلية، وذلك لضرب عدنان عبد الصمد بعينه وضرب التكتل الشعبي لدورهما المعروفين في التصدي لأبرز سراق المال العام، وهما مسعيان قد أصابا هدفهما إصابة مباشرة إلى حد كبير لأكثر من سبب ليس هذا مجال شرحها، وكذلك حصل هذا التضخيم في محاولة من بعض الأطراف المتدنسة بالخيانة الحقيقية للوطن من خلال الفساد وسرقة الأموال العامة «لتطهير» أثوابها عبر ادعاء الوطنية ورفع لواء الذود عنها اليوم، وهو المسعى الذي أشك في نجاحه لعظم حجم الخيانة واستقرارها في وجدان كل كويتي، حتى لو لم تكن الأدلة كافية أمام القضاء. تم تضخيم القصة كذلك، وكما قلت، لصرف انتباه الناس عن قضايا أخرى أهم وأجدر بالانتباه والمتابعة.
لا أشك أن للسلطة نفسها، أو لأطراف منها، أو ربما أطراف تسير بموازاتها أو تدور في فلكها، يداً في إشعال الموضوع أو في جانب كبير منه. هذه الأطراف أرادت أن تقفز إلى الحلبة في توقيت معين على هيئة الأبطال الخارقين الذين سينقذون البلد والمجتمع ويطفئون فتائل الأزمة، ولكن أحسب الأمور خرجت عن حساباتهم فانفرط العقد وتناثرت حباته!
هذا المقال ليس محاولة للتنظير، فأنا أدرك تماما أن مجتمعنا بصورته العامة لا تستهويه مثل هذه الأنماط من المقالات، أو هذه الطريقة في التفكير، لا لعيب في خامته، ولكن لأنه قد تمت برمجته عبر سنوات طويلة على التحرك في مجال محدود سواء على أرض الواقع أو حتى في أرض التفكير والخيال، وتم إحكام البرمجة في ذهنه من خلال خديعته بتسمية هذا المجال المحدود بدولة المؤسسات وبلاد الدستور والديموقراطية وكويت المجلس التشريعي المنتخب إلى آخر هذه المصطلحات الخلابة التي سرعان ما تذوي وتذوب إن هي وضعت تحت حرارة التمحيص، كما حصل تحت حرارة قصة «التأبين».
هذا المقال في النهاية ما هو إلا محاولة ذاتية لإدراك الأمور، ووضعها في نصابها الصحيح، للتصرف بعد ذلك بناء على هذا الإدراك. أخاطب ذاتي لأني بالنهاية جزء من المجموع، ولو خاطب كل فرد منا ذاته لقليل من الوقت بصدقية ورغبة صادقة في الوصول إلى الحقيقة، لاكتشفنا حجم الخديعة، ولربما كنا سنصل جميعاً بمجتمعنا إلى حال أفضل مما هو عليه الآن حيث يتعرض للاختطاف وبسهولة على يد شذاذ الآفاق والسرّاق!