Ad

أيعقل أن يكون فيلم «توتسي» قد أكمل الـ25 عاماً؟ أجل وقد تم الاحتفال بهذه المناسبة المهمة باصدار نسخة خاصة .

تتضمن الأسطوانة الجديدة بالاضافة إلى الفيلم الذي حافظ على رونقه مع الأيام وثائقيا مختصراً حول الانتاج، ينصح أن يشاهده كل من يهتم بصناعة الأفلام، من بين المواضيع المثيرة للاهتمام التي يتطرق إليها مخرج «توتسي» في هذا الوثائقي نذكر الجملة الآتية: «لست مخرجاً كوميدياً في الأساس».

كيف استطاع سيدني بولاك انجاز أحد أعظم الأفلام الكوميدية الأميركية التي شهدها التاريخ؟ وكيف تمكن فضلاً عن ذلك من انجاز أحد أفضل الأفلام الوثائقية المتعلقة بفنان «Sketches of Frank Gehry» فيما ليس مختصاً في اخراج الأفلام الوثائقية بشكل أساسي ولم يعمل سابقاً في هذا المجال؟ يمكن الاجابة عن هذه الأسئلة بالتعرف إلى جوهر هذا الرجل.

في العقود الأربعة الأخيرة قام بإخراج أكثر من 20 فيلما طويلا و25 عرضا تلفزيونيا ومثّل في أفلام أخرى علماً أنه دخل مهنة الاخراج من باب التمثيل ولا عجب بالتالي في أنه ظل يعتبر بمثابة مخرج الممثلين لفترة طويلة (أو بالأحرى ممثل الممثلين بحسب التقليد الراسخ والمباشر الذي روّج له كل من غراغوري باك أو حتى جايمس كاغني). لكن السر الكبير الذي باح به وثائقي «توتسي» هو القدرة الفنية التي يتمتع بها هذا المخرج السينمائي والمكللة بمهارة عالية. إنه مثال الفنان الأميركي الذي حقق النجاح بجدارة وهو رجل متفوق الذكاء وشفاف لا يهتم بالصفات الجمالية، مع أنه يكنّ لها احتراماً كبيراً، بقدر ما يهتم بترسيخ عمله.

سيرة

يتحدث جو مورغنستر عن السيرة المهنية لسدني بولاك الذي استمر في السعي وراء تحقيق النجاح» من خلال فيلم توتسي والتعرف إلى رغبات الممثلين والتصرفات الصادرة عنهم وسببها، نظراً إلى أن مهنته الأساسية ليست الاخراج الكوميدي. ولم ير هذا الفيلم النور في الواقع إلا بعد التأمل العميق في النسخ المتعددة للنص المكتوب واحتدام النقاش الذي كان يتحول أحياناً إلى شجار عنيف حول مواضيع تمت بصلة دائمة إلى جوهر هذا الفيلم الذي كان وسيبقى استثنائياً. فداستن هوفمان يبدو ذكياً ومثيراً للضحك في دور مايكل دورسي الذي ينتحل شخصية ممثلة تدعى دوروتي مايكلز بعد فشله في الحصول على عمل فيتنكر بدور موظفة إدارية في مستشفى ويتحسن سلوكه تدريجياً وفقاً للدور الذي يتنكر به.

«توتسي» مع داستن هوفمان

كان سيدني رافضاً التمثيل في الفيلم لا سيما أنه مضى 20 عاماً على ابتعاده عن هذا المجال غير أن داستن هوفمان أقنعه بأداء دور المتجسس على مايكل جورج رغبة منه في اسناد هذا الدور إلى شخصية كفوءة. وفي مشهد بات يعتبر من المشاهد الكلاسيكية اليوم يجلس مايكل المتنكر في ثياب دوروتي على الطاولة المخصصة لجورج في غرفة الشاي الروسية فيقترب منه بخجل وتنطلي عليه الخدعة. بعد هذه اللقطة المصممة ببراعة ننتقل الى المشهد الذروة المتسم بالبراعة أيضاًَ، عندما يكشف مايكل عن هويته يقول جورج الذي بدت على وجهه معالم الدهشة والتأثر: «يا الهي يا مايكل ليتك تتلقى علاجاً».

تزخر هوليوود بالشخصيات التي توحي بالثقة حيث يستطيع أي مخرج، نال تدريباً جزئياً، أن يمضي قدماً في عمله كمؤلف غير أن قوة سيدني تنبع من تحليه بمزيج نادر من المنطق والحكمة الملازمين لطبيعته في التعاطي مع مهارته والعالم المحيط به. ولعل العالم نسي مجد الطبيعة البشرية في فيلم «Out Of Africa» (بعيداً عن افريقيا) مع أنه بات من السهل تذكر الأفلام بفضل اسطوانات الDVD وهي دراما عظيمة نال على اخراجها جائزة اوسكار ولم يتألق روبرت رادفورت في أدواره يوماً كما فعل أثناء تعاونه مع سيدني الذي أخرج 7 أفلام، شارك كممثل فيها ولم يبد يوماً بالأناقة التي بدا فيها في مشهد من فيلم « Out Of Africa» عندما اصطحب دانيس فينش هاتون (رادفورد) كارين بليكسن أي ماريل ستريب في رحلة على متن طائرته الجديدة من طراز موث ولم تكن مجرد رحلة عادية بل مغامرة عاطفية ملأت الشاشة بمناظر أفريقية رائعة على مدى ثلاث دقائق من المتعة المتواصلة.

ولع بالطيران

لا عجب في ذلك أيضاً بما أن سيدني كان يجيد قيادة الطائرات وهو يملك حالياً طائرة Cessna Citation X الأسرع في الجو. وفي حديث أجريته حديثا مع إحدى صديقاته بربرا سترايسند التي شاركت في فيلم «The Way We Were» من إخراجه أدخلت ولعه الشديد بالطيران في خانة أوسع مؤكدة أن مردّ هذا الولع يعود إلى فضوله الكبير تجاه كل ما يمت بصلة إلى الفن والحياة. كذلك انه بارع في التمثيل على حد قول سترايسند التي قالت: «أعتقد أنه أدى الدور الأفضل في فيلم مايكل كلايتون مع أنه يعتقد على الدوام أن مصير أفلامه سيكون الفشل التام. وهي العقلية النموذجية السائدة بين الممثلين وأعترف أني شعرت بغبطة كبيرة لدى تسليمه جائزة الأوسكار عن فيلم «Out Of Africa» (بعيداً عن أفريقيا).

وفي تعليق تناول فيلم «The Way We Were» على شريط الـDVD الذي أصدره سيدني بولاك قال الأخير: إن القاعدة الأولى في الأفلام التي تتناول قصصاً غرامية هي أنه لا يمكن إبراز جاذبية شخصية ما على حساب أخرى وبالتالي فإن القاعدة الأساسية التي تسري على سيدني والصفة التي أدت إلى تبوئه المراكز الأولى في مجال الاخراج هي أنه رجل طيّب وكريم الأخلاق قبل كل اعتبار وهو صاحب حدس وبديهة وقد بقي منفتحاً على الآخرين مع أن النجاح يدفع المرء أحياناً إلى الانغلاق في بيئته والانعزال عن الناس.

معتوه

حدس بولاك خدمه جيداً في الوثائقي الذي أنجزه حول صديقه القديم فرنك جاهري وهو يتذكر هذه المناسبة قائلاً: «إن السبب الأساسي الذي دفعه إلى إنتاج هذا الوثائقي هو أنه في العام 1997 لم يتم الإعلان عن اسمه في افتتاحية متحف غوغنهايم في بيلباو، فقصده خصيصاً من لندن وإذا بي ألمح هذا الرجل المعتوه يطرق على نوافذ المتحف وفي يده كاميرا معدة للطرح ففتحت له الباب وأدخلته وسرعان ما بدأ يلتقط بعض الصور للمبنى ثم انصرف عند انتهاء الحفل. بعد مرور أسابيع عدة على هذه الحادثة أرسل لي 10 صور رائعة، ما زالت تعتبر إستثنائية حتى يومنا هذا ولم يوجه عدسة كاميرته يومذاك إلى غير المبنى متفهماً الوضع بحدسه، فهو ليس من هواة الهندسة المعمارية ولكنه رآها بالصورة التي كانت متمثلة في ذهني».

عقب هذه الافتتاحية الصاخبة لمتحف بيلباو بدأ منتجو الأفلام الوثائقية يسعون إلى التعاون مع جاهري لإنتاج فيلم عنه وعندما حان وقت اختيار المخرج، حاول أحد أعضاء فريق الإنتاج مساعدته على اتخاذ قراره بالاستفهام عن هوية الشخص الذي التقط أفضل الصور لمبناه.

صمت قاتل

ويؤكد جاهري أن سيدني كان متردداً ويتابع: «كان يردد على مسمعي دائماً أنه يجهل مبادئ الهندسة المعمارية فتقبلت الأمر برحابة صدر ولكن الظروف لم تدفعه لاحقاً إلى تولي إخراج الفيلم فحسب بل المشاركة في التمثيل أيضاً وكان يأتي إلى منزلي حاملاً معه هذه الكاميرا الرقمية فيلتقط لي بعض الصور أثناء تبادلنا أطراف الحديث فيما يقوم المصور اولتان غيلفويل بتصويرنا نحن الاثنين. وبما أن سيدني كان صديقي الحميم فقد كنت أتوخى الصراحة التامة في تصرفي معه».

وليس فيلم Sketches of Frank Gehry مجرد نقل حي لمجموع هذه الأحاديث ولكنه يسترجع أعمال جاهري بصورة رائعة كما أنه يبرز مواهب سيدني وبراعته في الحديث (يجيد الإصغاء وسرد القصص على حد سواء) بالاضافة إلى تفهمه العميق لعملية الابتكار وفي أسلوبه البراغماتي والعقلاني المعهود صنع فيلماً حول الإبداع، استعان فيه بطاقة النجار ووسع خيال الشاعر وكان يلزم الصمت التام أثناء العمل.

ويقول جاهري في هذا الصدد: «لم يتفوه أمامي يوماً بأية كلمة متجنباً التطرق إلى أي مفهوم أو مقاربة وفي يوم من الأيام وجه لي ولزوجتي دعوة إلى العشاء في منزله، فهيأ الطعام بنفسه ثم دعانا إلى مشاهدة الفيلم فعمّ صمت قاتل أرجاء المنزل بعد الإنتهاء من عرضه مما أوحى إليه بأنه لم يلق إعجابنا علماً أنني كنت أبكي من شدة فرحي.

ولا شك في أن هذا التصرف يعزز رأي باربارا سترايسند القائل بأن سيدني كان يعتقد دائماً بأن أفلامه ستبوء بالفشل.

سيرة

لم تتسم طفولة سيدني بولاك بالسعادة لا سيما بعد طلاق والديه وتحول أمه الى مدمنة ووفاتها وهو في السادسة عشرة.

إنتقل بولاك، المولود في ولاية انديانا الأميركية عام 1934 من والدين روسيين، الى مدينة نيويورك حيث درس المسرح في معهد Neighbourhood Playhouse ثم خدم في الجيش سنتين ليعود بعد ذلك الى المعهد ويعلم فن التمثيل. كذلك تزوج من تلميذته كلير غريزوولد عام 1958 ورزقا ثلاثة اولاد: ستيفان الذي لقي حتفه اثر تحطم طائرة عام 1993 وريبيكا ورايتشل.

إستهل بولاك مشواره الفني على خشبة المسرح ثم انتقل الى الإخراج في أوائل ستينات القرن الماضي. كانت تجربته السينمائية الأولى مع فيلم War Hunt عام 1962 الذي جمعه مع الممثل روبرت ردفورد ونشأت بينهما صداقة أدت الى مشاركتهما في أكثر من ستة أفلام.

لمع نجم بولاك إخراجاً وتمثيلاً عام 1982 مع فيلم Tootsie الى جانب الممثل داستن هوفمان الذي رشح لعشر جوائز عالمية، ثم توالت الأعمال الناجحة لا سيما Out Of Africa عام 1985 الذي جمع فيه ردفورد مع الممثلة ميريل ستريب ومهد له أبواب الشهرة حاصدًا جائزتي أوسكار عن أفضل فيلم وأفضل اخراج.

تولّى بولاك إنتاج عدد من الأفلام الناجحة منها The Talented Mr. Ripley عام 1999 وThe Quiet American عام 2002 وCold Mountain عام 2003 ثم عاد الى الإخراج مع فيلم The Interpreter عام 2005 من تمثيل نيكول كيدمان وشون بين.

كان بولاك عضواً بارزاً في لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي عام 1973 وترأسها عام 1986.يوجد في رصيده الإخراجي أكثر من 21 فيلماً وعشرة برامج تلفزيونية ومثّل في أكثر من 30 فيلماً وأنتج ما لا يقل عن 44 عملاً.