Ad

في هذه الحلقة، يتابع الكاتب سرد تفاصيل لقاء واشنطن الذي جمعه بجوزيف سيسكو، الذي كان يعمل مستشارا للرئيس جورج بوش (الأب) ومكلف شؤون الشرق الأدنى ويتولى معالجة ملف العراق. ويروي الكاتب كيف نقل رسالة أميركية الى بغداد، قبل أن يحصل على ردّّ عراقي كّلف بإبلاغه للأميركيين.

«ما زلت أتحرق شوقاً الى الحصول على أي شيء ايجابي، مهما كان صغيراً، يساعدني في انجاز مهمتي. قلت له: هل تسمح لي بأن أنقل هذا الى بغداد؟ قال من دون تردد: بكل تأكيد وبأسرع وقت ممكن. سألته: هل أستطيع ان اقول انه «عرض رسمي»؟ بعد تفكير دام عدة ثوان قال: تستطيع ان تقول انه نصيحة من رجل اميركي له نفوذ في صناعة القرار. كذلك باستطاعتك ان تستخدم اسمي طبعاً.

إذا هذه هي «الخطة» التي أشار اليها غارت أثناء حديثنا في السيارة. وبالتالي لم يبق ما أفعله في واشنطن وعليّ ان أرتب امور سفري خلال الساعات المقبلة لأنقل الى بغداد هذه النصيحة-العرض.

هناك طريقتان لإرسال أقوال سيسكو الى صدام: عبر فاروق حجازي، وهذه طريقة سهلة وكسولة، وهي ان أبقى في باريس وأرسل مذكرتي عبر القناة الخاصة للمخابرات العراقية الموجودة في السفارة. والطريقة الثانية ان أستجمع قواي التي بدأت تخور وتتعب وأذهب الى بغداد لأسلمها بنفسي. لم تأخذني اكثر من بضع لحظات من التفكير لاختيار الحل الثاني المتعب جسدياً وعقليا. ان الموضوع خطير وحساس وقد يفصل بين الحرب والسلم. واجبي ان أعطي السلم أي فرصة مهما كانت ضئيلة. إرسال مذكرة، مهما كانت تفصيلية، بالذي حدث، لن يكون كافياً، لانه لا يمكن ان يعطي الصورة بكل ابعادها. ايضاً أستطيع ان ألعب دوراً في عملية الإقناع، لانني مقتنع بما قاله سيسكو في ما يتعلق بأخذ الرهائن، فهو عمل ارهابي غير انساني مهما كانت مبرراته السياسية، والتراجع عنه قد يمنح السلم فرصة ولو كانت صغيرة.

كعادتي كلما أزور بغداد، الشخص الاول الذي أتصل به وأحاول ان أقابله هو طارق عزيز. لم أخالف العادة هذه المرة بالرغم من ان أصول اللعبة تقتضي بأن أنقل الجواب الى صدام عبر فاروق حجازي، الذي كلفني باسم صدام القيام بدور «البوسطجي». ولحسن الحظ او لسوئه، لا أدري، عندما اتصلت بمكتب فاروق، قال لي مدير مكتبه انه غير موجود في بغداد، وان غيابه قد يطول عدة أيام وربما اسبوع كامل. انتظار عودة حجازي مضيعة للوقت ولفرصة السلام الضئيلة. وعلى كل حال، فإن طارق عزيز يتعامل مع الملف الاميركي في كل أبعاده. لكن ما أقلقني هو ان نقل العرض الاميركي الى طارق وليس الى فاروق قد يزيد الحساسية الموجودة أصلاً، بين الرجلين. ولا أريد ان أكون السبب في ذلك لانه يتناقض مع مبادئ التعامل مع المسؤولين العراقيين التي رسمتها لنفسي منذ البداية، وهي ان أبتعد كلياً عن التدخل بشكل او بآخر في صراعاتهم الشخصية وما أكثرها في ذلك الحين.

وظهرت أمامي عقبة اخرى اسمها صدام حسين. ماذا لو ان صدام لم يبلغ عزيز بالمهمة التي أوكلت بها في واشنطن؟ وماذا لو انه لا يريد تدخل طارق عزيز؟ ألم يأخذ قرار الدخول العسكري الى الكويت من دون استشارة القيادة كلها وعلى رأسهم عزيز. انني أعرف ميكانيكية العمل التي يعتمدها صدام والبعيدة كل البعد، ليس عن الاسلوب الديموقراطي فحسب، بل عن قواعد ادارة دفة الحكم. أعرف مثلاً لدى اجتماع مجلس الوزراء، او القيادة القطرية لبحث موضوع ما، فان صدام يأخذ الكلام بداية ويبدي رأيه بالموضوع. ثم يختتم حديثه بجملة اصبحت تقليدية: هذا هو رأيي، فهل هناك رأي آخر؟ ولم يسجل في محاضر اجتماعات القيادة اي رأي معارض لصدام، بل ان الجميع يتسابقون في شرح بعد نظر «القائد»، والتنويه بصوابية رأيه، وفي كثير من الاحيان بـ«عبقريته».

لكن اذا اتبعت قواعد اللعبة في تسليم النصيحة -العرض الاميركي قد تكون الفرصة قد فاتت والعرض قد مات ودفن. وسيسكو اقترح ان يتسلم صدام العرض «بأسرع وقت ممكن». ولم يكن باستطاعتي أن أقابل صدام في ذلك الوقت. فقد نزل «تحت الارض» بعد احتلال جيشه أرض الكويت. ومحاولة مقابلته في تلك الظروف ضرب من المستحيل. لذلك لم يكن أمامي سوى طارق عزيز، على الرغم من المخاطر التي يمثلها هذا الأمر على «قواعد اللعبة» التي اتبعتها في تعاملي مع السلطات العليا في العراق. وقررت ان أضع أمام طارق الصورة بكل تفاصيل أبعادها.

استقبلني طارق عزيز بعد نصف ساعة من اتصالي به، بعد ان أبلغته، هاتفياً، انني قادم من واشنطن عبر باريس لكنني لمست قلقاً من خلال ابتسامته التي استقبلني بها. ولأول مرة لاحظت ارتعاشاً بيده وهو يقدم لي-كالعادة- سيكار «الكوهيبا» الخاص بصدام. ومن خلال نظارتيه السميكتين لاحظت ايضاً دوائر سوداء حول عينيه تدل على قلة النوم والراحة. أخذت مجموعة اوراق من جيبي كنت قد كتبت عليها تفاصيل كل ما حدث في واشنطن، ووضعتها أمامه. عزيز اتصل بسكرتيره طالباً عدم تحويل أي مكالمة له إلا مكالمة صدام. بدأ عزيز يقرأ أوراق تقريري الموسع. وأعترف هنا انني، مع سابق التصور والتصميم، حذفت كلمات الانتقاد التي تفوه بها سيسكو، واكتفيت بتسجيل ما تبقى، لسبب وحيد وهو انني أعرف ان الكلمة تثير صدام وتدفعه اما الى الغضب او الرضا. وأنا لم أكن أريد ان تقف كلمات الانتقاد في وجه اعطاء السلام فرصته الاخيرة. وركزت اكثر من مرة، وبأكثر من اسلوب، على امكان ان تشكل مشكلة الرهائن الاجانب أملاً في فتح قناة حوار مع واشنطن.

بعد ان انتهى عزيز من قراءة التقريـر، سألني: هل هناك أمل أم وعد بفتح قناة الحوار؟ قلت: ما سمعته من سيسكو يتضمن أملا، لا وعداً. فهو لا يستطيع ان يعطي وعداً. لقد تحدث كمستشار خاص لبوش، وليس كصانع قرار. قناعتي ان كلمات سيسكو قد تعكس رغبة البيت الابيض في تفادي الحرب اذا كان ذلك ممكناً. على كل حال يجب الا نتعامل مع كلام سيسكو على انه وعد حمل أختام البيت الابيض.

هنا ذكر لي عزيز عن تحركات دبلوماسية اوروبية مشابهة لكلام سيسكو، وصلته عندما كنت في واشنطن، وقال: لقد تلقيت إشارات من مسؤولين اوروبيين تدل على ان سيسكو تكلم معك بصدق. ثم وضع ابتسامة طفولية على وجهه قبل ان يتابع بفرح ملحوظ: ان تحصل على شيء خير من الا تحصل على أي شيء. خير انشاء الله، عافية. بهذه العبارة أنهى طارق المقابلة، وسار معي الى الباب لوداعي، وقبل ان يفتح الباب سألني: هل سمعت أي شيء من فاروق؟ هذا السؤال أعطاني مؤشراً أكيداً ان طارق عزيز كان على معرفة مسبقة بالمهمة التي كلفني بها صدام عبر فاروق. فارتحت. أجبته: لا. لقد قيل لي انه خارج بغداد ولا أعرف موعد عودته. قال لي: من الافضل ان تنتظر عودته لإبلاغه ما أخبرتني به. ربما يعود غداً. ومن المستحسن ان تذكر له انك وضعتني في الصورة. فاروق رجل طيب وهو من حراس الحزب القدامى الموثوقين، وأنا أنسق معه في كل الامور التي تتعلق بوظيفته. فتح الباب لكنني سارعت الى إغلاقه، وقلت: عليّ ان أنتظر الجواب. ان واشنطن بانتظاره. انها فرصة جيدة لا يجب ان تضيع. أنا شخصياً ضد استخدام «الدروع البشرية». عاد طارق إلى فتح الباب قائلاً: خير انشاء الله. ان عدم جوابه عن تساؤلي الاخير اعتبرته بمنزلة مشروع جواب سلبي. قال قبل ان يقفل باب مكتبه: سنتقابل قريباً. وسرت في طريقي تاركاً مكتبه وفي ذهني ألف وسواس ووسواس أسود اللون.

كما قال لي عزيز، ظهر فاروق حجازي في بغداد في اليوم التالي. زارني في الفندق في التاسعة مساء مع مدير مكتبه المزود دائماً بدفتر مذكراته وقلمه الرصاص. قلت له انني قابلت عزيز وما سأقوله الآن هو ترديد لما قلته له بالامس. قال: جيد، عزيز أحد القياديين المهمين والرئيس يثق به كثيراً. كان فاروق قلقاً، وهو ليس من النوع الذي يستطيع ان يخفي قلقه. ربما قلقه نابع من مشاغله ومشاكله التي كثرت بعد احتلال الكويت. ولأنني أعرفه جيداً كإنسان، رجحت ان قلقه نابع من انه ككل المسؤولين العراقيين لا يعرفون خطوة صدام التالية. بعد ان رددت على مسامعه كل ما قلته لعزيز بشأن رحلة واشنطن، سألني عن تحليلي الشخصي، وطلب من سكرتيره ان يحرص على تسجيل ما أقوله بشكل حرفي قائلاً انه من المهم ان يتضمن التقرير هذا التحليل. كررت ما سبق وقلته لعزيز عن رأيي السلبي في استخدام البشر كدروع لعمل سياسي، لانه يفقدنا جميعاً صفة الانسانية، ولانه يكثر من الأعداء ويبعد الاصدقاء، وفي النتيجة لن يردع واشنطن عن القيام بما عزمت عليه. طلب فاروق من سكرتيره ان يتوقف عن الكتابة عندما قال لي: أنا أوافق. نحن الآن تحت ضغط شديد جداً من اصدقائنا الدوليين وعلى مختلف الجبهات، خاصة من الاتحاد السوفياتي وفرنسا. كلهم يطالبوننا وبإلحاح شديد بإيقاف هذه اللعبة. ان واشنطن تستغلها (الدروع البشرية) لإزالة ما تبقى من علاقات طيبة لنا مع العالم الخارجي. لمعلوماتك فقط، فإننا في جهاز المخابرات مع وقف هذه العملية، وهناك أمل كبير في ان ننجح في وقت قريب جداً. اننا نبحث مع الرئيس في هذا الموضوع بشكل يومي. وما حصلت انت عليه من واشنطن سيدعم مناقشاتنا. المشكلة اننا لا نثق بالاميركيين ولا بوعودهم. اذا أعلنت واشنطن صراحة رغبتها في فتح الحوار بصورة علنية، فإن الموضوع يصبح اكثر سهولة.

لم أرغب في أن أزرع الاوهام في ذهن فاروق أو غيره. فسارعت الى القول بشكل جازم: ان انطباعي بأن واشنطن لن تفعل ذلك. انس الموضوع. لانهم اذا فعلوا ذلك فإنهم سيظهرون بمظهر الضعيف. والاميركيون يرفضون ان يكونوا تحت الضغط او التهديد، ابو عمر. نحن نتعامل مع الولايات المتحدة الاميركية وليس مع ايران.

هز فاروق رأسه موافقاً ثم طلب من سكرتيره ان يتابع الكتابة: لقد لاحظت من تقريرك ان سيسكو لم يتحدث عن الكويت. هل ذكر هذا الموضوع؟ اذا لم يكن فعل ذلك هل هذا يعني، بعدم ذكره الكويت، انهم بدأوا يهضمون تحريرنا لأرضنا؟ قلت: على الإطلاق. بالتأكيد لا. ان سيسكو لم يتحدث عن الكويت لانني نجحت، خلال مناقشتنا، في تحويل أفكاره عن الموضوع. لانني اعتبرت انه اذا سألني عن الكويت، كان عليّ، بشكل او بآخر، ان أقول له الحقيقة، وهي انكم لن تنسحبوا منها... او ان أكذب عليه. وفي كلا الحالتين تكمن المشكلة. أشكر الله انني أنقذت من هذا الموقف الصعب، وسيسكو لم يطرح السؤال: هل انتم مستعدون للانسحاب من الكويت. ربما لم يفعل لأن اهتمامه كان محصوراً في موضوع الرهائن. وهو مثلي لا يرغب في إقفال الباب. ان قناعتي العميقة، وأرجو من الاخ محمد (الاسم الاول لسكرتير فاروق) ان يحرص على تسجيل ما أقول: ان الاميركيين، وتحت أي ظروف، لن يساوموا على احتلال الكويت. يجب ان نقبل هذه الحقيقة، أحببناها أم كرهناها.

هزّ فاروق رأسه مرة ثانية علامة الموافقة، ثم أجاب عن سؤال كانت طلائعه على شفتي: خلال ساعتين او ثلاث ساعات سيكون تقريرك على مكتب الرئيس. انه يعمل هذه الايام ليل نهار. لا ينام اكثر من ثلاث ساعات. وعلينا ان ننتظر توجيهاته. إذا عليك ان تنتظر كما سننتظر نحن.

الانتظار في مثل هذا الظرف رفاهية لا أحد يستطيع ان يتحمل نفقاتها. قلت بلهجة تشبه الاستجداء: عنصر الوقت مهم جداً يا أبو عمر. انه محسوب بالساعات وليس بالايام. تجاهل فاروق استعطافي للسرعة في اتخاذ الموقف وقال: هل تعتقد ان سيسكو سيفي بما قاله بشأن فتح الحوار في حال تخطينا أزمة الرهائن؟ ان أي جواب عن هذا السؤال مثله كمثل من يسير مغمض العينين في حقل ألغام. اذا بعت كلام سيسكو بأكثر من ثمنه سأضع نفسي في خانة المسؤولية الكاملة، خاصة اذا تصرفت بغداد على أساس وعد ليس هناك دليل واحد عندي على انه سيتحقق. لذلك اخترت كلمات الجواب بكل دقة. قلت: ان سيسكو لم يعط وعداً كاملاً. خلاصة ما قاله ان إطلاق سراح الرهائن الاجانب من شأنه ان يصبّ مياهاً باردة على أزمة ساخنة. على كل حال، فإن وضع سيسكو لا يؤهله لإعطاء أي وعود. قال فاروق وهو يهم بالانصراف: «خوش». أنا أنتظر قرار الرئيس خلال يومين. على الباب الخارجي تمنيت عليه اذا كان الرد ايجابياً ان يبلغني إياه قبل 24 ساعة من إعلانه رسمياً حتى أخبر واشنطن بذلك، مما يزيد مصداقيتي لاستخدامها في أمور مستقبلية، وبالتالي يزيد حلقة اتصالاتي هناك اتساعاً. قال: فهمت. وإذا كان الجواب سلبيا؟ ضحكت وقلت: سأتبع قول ابو زياد (طارق) ولن أعطي واشنطن شيئاً. عدم الجواب هو جواب بحد ذاته.

لم أتلق أي اتصال من فاروق طوال يومين كاملين. وفي اليوم الثالث اتصلت به هاتفياً وأبلغته عزمي على السفر في اليوم التالي الى باريس «وسنبقى على اتصال هاتفي». واتفقنا على شيفرة معينة. اذا كان الجواب ايجابياً فانه سيقول لي «ان عملك الذي جئت من أجله قد انتهى». وإذا كان سلبياً سيقول «عملك ما زال قيد الدراسة». بقيت في بغداد يوماً آخر لزيارة عدد من الاصدقاء. وصلت الى باريس بعد ظهر ذلك اليوم. كانت الشمس على وشك المغيب، لكن ظلام المساء لم ينتشر بعد. فتحت باب شقتي ووضعت حقيبتي في الممر الصغير المؤدي الى بقية الغرف. استقبلتني زوجتي ثم قالت: فاروق اتصل بك هاتفياً وترك لك رسالة معي: ان «شغلك» انتهى. المفاجأة كانت سارة، فهي تطلق روح الانسان من عقالها التقليدي. فارق السن يختفي ويحل مكانه تصرفات صبيانية. هذا ما حصل لي. رحت أرقص صارخاً أقبّل كل شيء أجده في طريقي: الكرسي، المرآة، الكنبة وبالطبع زوجتي التي أصابتها الدهشة نتيجة تصرفاتي هذه. لابد انها قالت في نفسها: الرجل أصابه مس من الجنون. ولأنني من المؤمنين بأن الخطأ والصواب هما توأمان سياميان رحت أسألها سؤالاً اثر سؤال: متى «تلفن» فاروق؟ ماذا قال لك بالضبط؟ هل قال أي شيء آخر؟ هل طلب ان أتصل به؟ كررت المسكينة جواب فاروق «شغلك انتهى»، مثنى وثلاثا ورباعا. أردت أن أتأكد بنفسي فسارعت الى الاتصال به على رقمه الخاص، لكن لا جواب. فاروق يرد مباشرة على رقمه الخاص إذا كان في مكتبه. حاولت بعد خمس دقائق. النتيجة ذاتها لا جواب. عدت الى زوجتي اسألها مرة أخرى عن رسالة فاروق. كررتها بضيق الزوجة التي نفد صبرها. عندها قررت ألا أضيع لحظة واحدة فاتصلت بموراي غارت واخبرته أنني قد عدت لتوي من بغداد، وأنني تلقيت جواباً إيجابياً بشأن الموضوع الذي بحثناه. حرصت على ألا أذكر كلمة «الرهائن» أو عبارة «الدروع البشرية» انسجاماً مع نصيحة بوب بأن خطي الهاتفي مراقب فرنسيا. لكن غارت كان في واد آخر فقال: تعني موضوع الرهائن والدروع البشرية؟ لم يعد باستطاعتي الاستمرار بلعب دور الجاسوس الحريص خوفاً من ارباكه فقلت: نعم. هذا هو الموضوع بالذات. رد غارت: واشنطن أيضاً تلقت اشارات ايجابية. هل تستطيع أن تؤكد ذلك؟ قلت: نعم بالتأكيد. قال: عظيم. رائع. أتمنى أن نكون قد بدأنا عملنا.

قبيل منتصف الليل اتصل غارت. فارق الوقت بين باريس وواشنطن جعله يعتذر عن ايقاظي من النوم؛ وبعد أن أكد أن واشنطن أيدت معلوماتي قال لي: لقد قمت بعمل كبير. أبلغ اصدقاءك أن ينتظروا الأخبار الجيدة كرد على مبادرة حسن نيتهم. قل لهم أن يبقوا محطة الـCNN مفتوحة. هناك احتمال كبير في صدور تصريح رسمي من البيت الأبيض الليلة. في بغداد، كانت ساعات الفجر الأولى مما دفعني الى عدم الاتصال، وفضلت أن انتظر إلى حين صدور التصريح الرسمي على الـ CNN. لكن واشنطن كانت أسرع مما توقعت، فقد أعلن بوش أنه قرر أن يذهب ميلا آخر في بحثه عن السلام مع العراق. وتتابعت الأخبار. أعلن بوش أنه سيرسل وزير خارجيته جيمس بيكر الى بغداد، وفي الوقت ذاته واشنطن مستعدة لاستقبال طارق عزيز. كذلك أعلنت بغداد رسمياً بدء الاستعدادات لاطلاق الرهائن الأجانب. إذا كانت فرحتي عارمة، عندما تلقيت عبر زوجتي، رسالة فاروق الايجابية، فإن هذه الفرحة تحولت الى احتفال نتيجة قناعتي بأن الأمل في تلافي حرب مدمرة قد أصبح حقيقة، وأنني قد ساهمت في هذا العمل التاريخي. لكن الحقيقة غير ذلك. فقد عرفت، بعد نجاح «عاصفة الصحراء» في طرد صدام من الكويت، أن الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، والملك الأردني حسين، ورئيس جمهورية اليمن علي عبدالله صالح قد لعبوا الدور الرئيسي في اقناع صدام باطلاق سراح الرهائن. أما الدور الذي لعبته مع «سيسكو» وغارت وطارق عزيز وفاروق حجازي كان ثانوياً، لكنه «كان مهماً» كما قال لي كل من فاروق وغارت في ما بعد. ولعل فاروق في تأكيده على الدور الذي قمت به كان يهيئني بل ويشجعني على القيام بأدوار أخرى من هذا النوع مستقبلاً.