معيارُ الشكل المُضلِّل
أعطى الجاحظُ، في مقولتِه الشهيرة بشأن عدم اكتراثه بالمعاني الملقاة على الطريق في صناعة الأدب، ذريعة لنقاد حداثتنا الشكلية لمزيد من فصلِ الشكلِ عن المضمون، ومزيد من عدم الاكتراث بما يتخفّى وراءَ الكلماتِ من دلالة ومعنى وأهداف. ولذا عرفنا، مع الأيام، حرصاً متعاظماً في قصْر الحديث التقويمي على عناصر الشكل: صوت المفردة، عدد حروف العلّة، صياغة الكلمات في جمل، النبرة في درجة الإصاتة، ودرجة الصمت... الخ، ولا بأس من إدراج كل واحدة في مُصطلح مُضلّل قدرَ الإمكان، وتخطيط إيضاحي لهذه العناصر (أرقام رياضية، وأسهم جبرية، ودوائر هندسية ترضي قناعة الأستاذ الأكاديمي!).
العناية بصناعة الشكل في النص الإبداعي تُعززها عنايةُ الناقد هذه في صياغة منهجه النقدي شكلياً، ويعزز كليهما موروث عربي بلاغي، بالغُ العناية بالشكلِ والصنعة، الجميع متفق على ترك المعاني تتعفن على قارعة الطريق، ففي ذلك خلاصٌ لاشكّ فيه من أعباءِ الدلالةِ العميقة، وليدة الخبرةِ الداخلية، وخبرة المعرفة، وخبرة الحكمة سيدة القِطاف، والأخطرُ من ذلك عبء الموقفِ الأخلاقي، الذي يتراءى بحياء وراء المسموعِ والمرئي من الكلمات. إن قراءة أبي حيان التوحيدي تُقرّبُ للذائقة الشكلية درساً خلاف موروثها، ولقد اخترت التوحيدي لأتجنب الشعر إلى حين، ما الذي يميز نثره عن نثرِ مجايليه من صُنّاعِ النثر المهَرةِ، أمثال ابن العميد وابن عبّاد؟ ليس من الصعب التعرّف على عمق خبرة هذا المشرّد الداخلية (التباسه على نفسه. شكّه وارتيابه، وسْوسته، مشاعر غربته العميقة...)، ولا على خبرتهِ المعرفية (موسوعيته الأدبية، الفلسفية، الدينية، التاريخية...)، وفي التحام الخبرتين ببعض. وليس من الصعب بالتالي التعرّفُ على رفعةِ نثره وغناه، ولكن ليس من اليسيرِ على نقاد حداثتنا الشكلية استنتاج أن غنى هذا النثرِ ناتجٌ عن غنى تلك الخبرةِ الداخلية، والخبرة المعرفية، غنى الشكل من غنى المادة الدلالية والمضمونية وراءه، وبالتالي فإن فقر الخبرة الداخلية وخبرة المعرفة لا تولّدُ إلا نثراً فقيراً! قد يكون النثرُ متزاحماً بالمعلومة، خبرية أو على شكلِ مواقف ذهنية، وقد يكون مُدهشاً في طاقة الصوت، وفي بلاغة التركيب والنسيج، ولكنه في النهاية مطحنةٌ لغوية لا غير! لأنه يفتقر إلى مصداقية الخبرة الداخلية أو الروحية، هذه الخبرةُ التي هي مصفاةُ خبرة المعرفة. إذا انتقلتُ إلى الشعر فسيكونُ الأمرُ أكثرَ التباساً على حداثيي الشكلِ بالضرورة، لا لشيء إلا لأن الشعرَ أكثر قابلية على المراوغة والاحتيال، هل أجرؤ فأقول: اذهب إلى نثر الشاعر قبل قراءة شعره، والحكم عليه؟ وبالمقابل، هل سيبدو لك الشاعر الذي يفتقر إلى العمق في شعرِه ناثراً ضعيفاً؟ لدي شيء من قناعة في ذلك، بالرغم من أن الشكلَ في كل من الشعر والنثرِ يخضع للمعيار ذاتِه، لكن عناصر الشكل في الشعر تحتل مكانة في الموروث والذائقة الجماعيين، لا يسهُلُ على أحدنا اختراقُها إلى مواطنِ المراوغةِ والاحتيال. لك أن تتأمل البيتين التاليين بالتناوب: أنا تِربُ الندى وربُّ القوافي وسِمامُ العدى وغيضُ الحسود (المتنبي) إنني خرقةٌ أُخاطُ إلى الأرضِ، فيا خالقَ العوالمِ خِطني (المعرّي) لا شكّ أن ذائقة الناقد اللفظي سيستثقلُ الخاءَ وتكرارها، وسينتصرُ لما يراه غنى في موسيقى البيت الأول، وفي قوة مفرداته وتماسك صوره... الخ، على أن ذائقةَ الباحثِ عن الخبرةِ الداخلية، الروحية، سيجدُ البيتَ الأوّلَ، على العكس، جعجعةً لا تُخفي معنى عميقاً، ولا معنى نبيلا بالتالي، هذا التماسُ مع المعنى الأخلاقي يثير أكثر من ارتجافة قلقٍ لدى كتّابِ ونقاد الحداثة الشكلية، في حين يجعل قارئ الخبرة الداخلية ينحني لهذا الموقف الخفيّ في بيت أبي العلاء، انحناءةَ الفرزدق في مربد البصرة لبيت في قصيدة لشاعر كان يقرأ، لأنه حين سُئل عن سرّ سجدته أجاب :«لكم سجدةُ القرآن، ولي سجدةُ الشعر!».