عندما يصبح التهديد بالقتل أسلوباً في الحوار

نشر في 11-02-2008
آخر تحديث 11-02-2008 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري

لا نجد في القرآن الكريم أو السنّة النبوية هذا السور الخانق بين الجنسين، ولو كان الاختلاط محرّماً لأجمع عليه العلماء كإجماعهم على الخلوة المحرمة، ويكفي أن نقول إن كبار العلماء في معظم الدول العربية الإسلامية يرون شرعية الاختلاط إلا القلة منهم.

هل يعقل أن يتم تهديد نائب في البرلمان بالقتل بسبع طلقات، لأنه تقدّم باقتراح لإلغاء قانون منع الاختلاط؟! هل يُتصور أن يحصل ذلك في القرن الحادي والعشرين وفي بلد عريق في التجربة الديموقراطية؟! نعم ذلك معقول ومتصور وقد حصل فعلاً في الكويت، إذ تلقى النائب الليبرالي علي الراشد، اتصالاً من مجهول، سبّه فيه واتهمه بالخروج على الدين وهدّده بالقتل بسبب اقتراحه الذي قدّمه إلى مجلس الأمة بالاشتراك مع زميليه في «كتلة العمل الوطني» محمد الصقر وفيصل الشايع، وهو اقتراح بقانون بتعديل بعض أحكام قانون «منع الاختلاط» في جامعة الكويت وكليات ومعاهد الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والجامعات الخاصة، وهو القانون المطبق في الكويت منذ عام 1996 برقم 24 والقانون 34 للعام 2000.

وكان الراشد قد صرح في مؤتمر صحفي عقد لتوضيح حيثيات مقترحه فوضح أن التجربة العملية لتطبيق قانون منع الاختلاط أثبتت «الفشل التام» وأن هناك آثاراً سلبية عديدة انعكست على الطلاب والطالبات من جراء تطبيق هذا القانون، منها: تأخير تخريج الطلاب والطالبات لأن الكثير من المقررات لا تفتح للطلاب بسبب قلة عددهم، وهو الأمر نفسه مع الطالبات نتيجة كثرة أعدادهن، إضافة إلى الكلفة المادية الكبيرة الناجمة عن فصل المباني وكل ذلك أضر بالعملية التعليمية عامة.

كما عزز رأيه في أن «التعليم المشترك» مفيد من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لجهة أن زيجات عدة تمت داخل الجامعة من خلال مراقبة الطلاب والطالبات لسلوك بعضهم بعضاً ومنهم نواب تزوجوا من الجامعة.

ويتمنى النائب عدم الزج بالدين الإسلامي كذريعة لمنع الاختلاط قائلاً: إن الإسلام لا يمنع الاختلاط حتى في مكة المكرمة وفي المجمعات والأسواق في السعودية، كما أن الاختلاط واقع وحاصل في الوظائف العامة وفي كل نواحي الحياة العامة في الكويت، مؤكداً أن الشريعة الإسلامية لا تمنع الاختلاط، فالمرأة موجودة مع الرجل في كل مكان، في العمل والسوق وفي مكة المكرمة وفي المسجد.

لقد شكّل هذا الحدث، صدمة كبيرة للشارع الكويتي فاستنكرته الأوساط النيابية والسياسية والشعبية وأدانته واتّهمت من سمتهم بـ«قوى الظلام» بالتحريض ضد النائب علي الراشد و«تمهيد الأرضية أمام بعض المهووسين والأغرار للتهديد بالاعتداء على ممثلي الأمة وإشاعة مناخ الإرهاب الفكري، مما يمثل انتكاسة للديموقراطية الكويتية ولحركة الاستنارة الثقافية والاجتماعية في الكويت» وقد عبر بعض النواب عن استيائهم ورفضهم لهذا الأسلوب واستنكارهم للغة التهديد مطالبين الحكومة بمتابعة مصادر التهديد والكشف عنها، كما قال رئيس مجلس الأمة «الخرافي» إن من غير المقبول انتهاج أسلوب التهديد بالقتل وباسمي وباسم مجلس الأمة -جميعاً- نرفض هذا الأسلوب، ونحن نعتمد على التصويت الديموقراطي في حسم القوانين ونحترم الرأي والرأي الآخر. أما ردود أفعال الجماعات السياسية الإسلامية فتفاوتت، فبينما رأت «السلفية» أن مبررات الراشد في مقترحه «واهية» ولا تستحق رداً وأن مقترحه ولد ميتاً، رأى تجمع «ثوابت الأمة» في الاقتراح «فسقا وفجورا ووصمة عار» معتبراً أن مقترح الراشد من «المحرمات» التي جاء النص عليها في الكتاب والسنّة قائلين «ننصح الراشد بسحب هذا المقترح الذي يشكّل وصمة عار للفكر الليبرالي»، لكن علي الراشد لم يعبأ بالتهديد ولا باستنكار الجماعات الدينية لمقترحه، وقال: لن يثنيني أي تهديدات عن مواصلة منهجي في الدفاع عن الحريات، ومن حسن الحظ أن وزارة الداخلية تمكّنت من الوصول إلى مصدر التهديد واتضح أنه شاعرٌ ومؤلفٌ كويتي يبلغ من العمر 58 عاماً له «ميول دينية»، وإن لم يتم تحديد انتمائه إلى تيار إسلامي بعينه لكنه متقاعد من وزارة الإعلام ومعدّد -متزوج اثنتين- وقد قام بالاتصال عبر هاتف سائق زوجته -الهندي الجنسية- كما قام بشراء خط جديد للسائق وألغى الخط الأول، ولكن لسوء حظه أن جهاز الكاشف على تلفون الراشد تمكّن من رصده، وكان صاحب التهديد قد علم بخبر تقديم مقترح الراشد على هاتفه الجوال عبر خدمة الرسائل الإخبارية القصيرة «كويتانا».

الآن دعونا نتساءل: ما دلالات أن يعمد شاعر ومؤلف وفي مجتمع ديموقراطي مفتوح إلى أسلوب التهديد بالقتل في قضية جدلية مثل «الاختلاط»؟! وما المؤشرات الثقافية والاجتماعية والدينية التي تنبئ عن هذا الأسلوب الإجرامي؟! وهل صحيح أن «منع الاختلاط» من الثوابت الدينية؟!

بداية نقول ونؤكد أن الإسلام -نصوصاً ودروساً ومقاصد- لا يعرف شيئاً اسمه «منع الاختلاط» ولا يوجد لا في القرآن ولا في السنّة أو عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضوان الله عليهم- ما يفيد تحريم «لقاء» الجنسين تحت سقف واحد واشتراكهم جميعاً في تلقي العلم النافع أو في إنجازات عمل تنموي صالح أو تنفيذ مشروع اجتماعي خيّر أو في أداء العبادة في المساجد أو القيام بمناسك الحج إلى غير ذلك من الأعمال التي تتطلب تضافر جهود الجنسين، بل لم يرد لفظ «الاختلاط» في أي مصدر ديني أو لغوي أو تاريخي بمعنى «الاختلاط بين الرجال والنساء» وورد 595 مرة في 144 مصدراً بمعنى «الخَرفَ» الذي يصيب كبار السن. ولذلك لا تعليل ولا تفسير لكثرة دوران «منع الاختلاط» وترويجه في الخطاب الديني المتشدد الذي وصل إلى مستويات عالية وبعيدة في عزل النساء عن الرجال، إلا أنه برد فعل متطرف تجاه «الاختلاط» بالمفهوم الغربي، لقد وصلت ردود الفعل لدرجة «الهوس» أو «المرض» كما تمثلت في دعوة علماء دين سعوديين لمنع النساء من الصلاة في صحن الكعبة بحجة منع الاختلاط، وفي مقترح هيئة الأمر بالمعروف في السعودية بفصل النساء عن الرجال في طريق المشاة بالمدينة المنورة وإجبارها للنساء على تناول إفطارهن في رمضان وقوفاً ومنعهن من الجلوس على الموائد الخلفية بمطاعم حي البلد بجدّة بمبرّر منع الاختلاط! وفي الدعوات التي تطالب بإنشاء مساجد خاصة للنساء.

هل هذه الدعوات للعزل أو الحبس الاجتماعي أمر مبتدع ومستحدث في المجتمعات الإسلامية في العهد العثماني ولم يكن معروفاً من قبل؟ لقد كان الاختلاط بين الرجال والنساء على امتداد العهدين النبوي والراشدي في الأسواق والمنازل والمساجد وميادين الجهاد والعبادة والعلم والعمل هو الأصل الشرعي والطبيعي، ولم يكن الأمر بحاجة إلى فتاوى في حِلّ أو حُرمة الاختلاط كما هو حاصل الآن لدرجة أن يفتي شيخ أزهري بجواز إرضاع زميلة العمل لزميلها من أجل حِلّ الاختلاط.

لم يكن المسلمون مشغولين بهذه القضية، انشغال هؤلاء الذي صعّدوا للبرلمان قانوناً بمنع الاختلاط، الإسلام لم «يحرّم» الاختلاط بالمطلق إنما «نظّمه» ووضع له «ضوابط شرعية» ولا يُعقل ولا يتصور في دين سمته الخلود والبقاء والصلاحية لكل المجتمعات أن يحرّم التقاء الجنسين وإلا فقد مبرر صلاحيته الشاملة، وهؤلاء الذين يتحججون بالدين سنداً لمنع الاختلاط، يظلمون هذا الدين العظيم ويسيؤون إليه، ولو أنصفوا لقالوا تقاليدنا وأعرافنا وغيرتنا المرضية تمنع الاختلاط لا الإسلام.

لأنه لا يمكن للدين أن يمنع الاختلاط وهو سنّة الحياة، وعليها قامت المجتمعات وبها نهضت وتطورت وتقدمت. لو أراد الإسلام منع الاختلاط لأمر بمسجد خاص لهن ولخصّص لطوافهن أوقاتاً غير أوقات الرجال. وهؤلاء الذين صدّعوا رؤوسنا بسلبيات الاختلاط ومفاسده لماذا لا يحدثوننا أيضاً بسلبيات الفصل بين الجنسين ومفاسده التي تفوق مفاسد الاختلاط، والذين يتّخذون من «سد الذريعة» سداً مانعاً لكل لقاء بين الجنسين، يتغافلون السلبيات الناتجة عن هذا السد الجائر والمانع لكل خير، فضلاً عن أنهم يقفزون فوق النصوص التي أكدت شرعية الاختلاط العفيف أو المحمود أو النظيف.

ليس كل اختلاط محرّماً، الاختلاط العابث والماجن ومن غير هدف تنموي أو تعليمي أو اجتماعي هو المحرّم فحسب، ولا نجد في القرآن الكريم أو السنّة النبوية هذا السور الخانق بين الجنسين، ولو كان الاختلاط محرّماً لأجمع عليه العلماء كإجماعهم على الخلوة المحرمة، ويكفي أن نقول إن كبار العلماء في معظم الدول العربية الإسلامية يرون شرعية الاختلاط إلا القلة منهم، وهؤلاء القلة هم مع الرأي الأشد بالنسبة للمرأة دائماً، هم مع تحريم اختلاطها ومع وجوب نقابها ومع حرمة قيادتها للسيارة ومع حرمة حقوقها السياسية كلها، ونحن نحترم وجهة نظرهم ولكننا لسنا مع أسلوبهم في فرض رأيهم على الآخرين المخالفين لهم، ولسنا معهم أن هذه الأمور من ثوابت الدين، نحن نقول هذه وجهة نظر فقهية لا شرعية لا إلزام فيها، ولا يحق لهؤلاء فرض وصايتهم على المجتمع والناس أحرار في أن يقتنعوا بالرأي الفقهي الأوفق والأنسب والأصلح لأوضاعهم، وعندي فتوى لفضيلة مفتي مصر الحالي رداً على سؤال: هل يجوز أن تكون فصول المدرسة مختلطة -وهي مدرسة دينية خاصة- فجاء رد المفتي: «بعدم الفصل بين الطلبة وجواز الاختلاط في الفصول حتى آخر المراحل التعليمية بالمدرسة». هذه المدرسة تريد أن تقدم نموذجاً جديداً من التعليم الإسلامي يقوم على التعددية يختلف عن المناهج الدينية والسائدة التي تقوم على رأي أحادي يحتكر الصواب وكان من ضحاياها «شاعرنا» الذي لُقّن منذ الصغر أن الاختلاط «حرام» ومن يدعو إليه يستحق «القتل» لأنه يدعو إلى الفسق والفجور ويهدم المحرمات الشرعية طبقاً لما جاء في بيان «ثوابت الأمة» إنه جناية التعليم الديني الأحادي وجناية المدرس الذي لقّن طلابه التحريم في أمر هو من الفرعيات الخلافية، فحوّلها إلى أصول وثوابت وأساسيات دينية... إنه باختصار جناية التعليم المتخلف وهؤلاء ضحاياه.

* كاتب قطري- بالمشاركة مع «الوطن» القطرية

back to top