Ad

ما يزيد شكوك طهران حول نوايا واشنطن هو الرسائل والإشارات المتناقضة الصادرة من العاصمة الأميركية، التي تعتبرها العاصمة الإيرانية خطة مرسومة بدقة هدفها إصابة إيران بمرض «عمى الألوان» إلى درجة لا تستطيع معها التمييز بين ما هو حقيقي وما هو نصف حقيقي.

أجواء الصحافة العالمية ملبّدة هذه الأيام بالغيوم السوداء، نتيجة الشائعات التي تطلقها معظم المطابخ الدولية، وأيضاً أنصاف الحقائق التي لا يمكن تأكيدها أو نفيها، وكلها تصب في اتجاه واحد: متى ستوجه الولايات المتحدة أو إسرائيل، أو الاثنان معاً، الضربة العسكرية الموجعة لطهران؟ والملفت للنظر أن كلمة «هل» اختفت من قاموس هذه المطابخ، لتحلّ مكانها كلمة «متى» للدلالة على أن أمر الضربة بات محسوماً وأن المسألة كلها مسألة تحديد الوقت.

لا يمكن، بل لا يجب الاستخفاف، بهذه الظاهرة المستجدة حتى لو كان كل ما قيل ويقال مجرد شائعات القصد منها زيادة الحرب النفسية اشتعالاً. فقد علَّمنا تاريخ الحروب القديمة والحديثة أن الحرب الساخنة تبدأ عندما تنتهي الحرب الباردة. وأحد أسلحة الحرب الباردة الفتاكة هي الشائعات المدروسة التي تخلق جواً من الإرباك والارتباك، حيث تضيع الحقيقة ويضيع معها التحليل العقلاني السليم. وعلى ما يبدو، فإننا نشهد اليوم المرحلة الأخيرة من حرب الشائعات أو حرب أنصاف الحقائق.

يقولون مثلاً إن السبب وراء رغبة القيادة العسكرية البريطانية في تسريع سحب ما تبقى من جنودها من جنوب العراق، هو معرفتها أن التصادم العسكري مع إيران أصبح أكبر من شائعة، وفي حال حدوثه فإن خمسة آلاف جندي بريطاني معرضون لأن يكونوا أول من يدفع الثمن في هذه المواجهة.

يذكرون أيضاً أن حكومة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد حذرت، منذ وقت قصير، عدداً من دول الخليج، ومن بينها دولة قطر، بأنها ستضطر إلى ضرب المواقع والتجمعات العسكرية والاقتصادية واللوجستية التي تستخدمها الولايات المتحدة داخل الأراضي القطرية، في حال إطلاق أول صاروخ أميركي على الأرض الإيرانية... وأن «على قطر، الدولة الصديقة، ألا تعتبر هذا العمل موجهاً ضدها بقدر ما هو ينبع من سياسة الدفاع عن النفس». وقد نقل هذه الرسالة بوضوح أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني المعروف بعلاقته الجيدة بطهران وبالدوحة في آن واحد. في حال حدوثه، فإن «إنذار الصداقة» هذا يمكن وضعه في خانة «نصف الحقيقة». ذلك أن طهران أصيبت بشظايا حرب الشائعات بشكل لم تعد قادرة على التمييز بين الحقيقة الكاملة والشائعات الموجهة، ومن حقها أن تتخذ التدابير الاحترازية حتى لو أصابت هذه التدابير العدو مع الصديق. ففي الحروب تختلط الأمور بحيث يصبح الهدف هو الأساس، ولا شيء غير إصابة وتدمير هذا الهدف.

يشيعون أيضاً أن رسائل إيرانية مماثلة في المعنى والمفهوم وجَّهت أيضاً إلى دولة الإمارات، ولكن بلهجة تختلف عن لهجة الصداقة التي صيغت بها الرسالة إلى قطر.

يقولون أيضاً إن المجتمع الدولي، وبصورة خاصة، أوروبا، ممثلة بألمانيا وفرنسا، يضع يده على قلبه قلقاً من انفجار الوضع، لذلك فإن أوروبا المتوحدة والمتضررة جداً من وقوع النزاع، تحاول جاهدة هذه الأيام، من خلال ممارسة الدبلوماسية السرية، تأدية دور الإطفائي خاصة مع الولايات المتحدة. وهي بالتالي تسعى إلى إطالة فترة حرب الشائعات الباردة كسباً للوقت، لعل في هذا الكسب ما يبعد احتمال نشوب النزاع. وهي ترى أنه كلما اقترب موعد انتهاء ولاية الرئيس الاميركي بوش ابتعد خطر قيامه بمغامرة جديدة شبيهة بالمغامرة العراقية الكارثية. إن أوروبا الموحدة تعتقد أن بداية الصيف المقبل هو الموعد الفاصل لانتهاء خطر قيام النزاع العسكري مع إيران، لأن الولايات المتحدة تكون قد وصلت إلى قلب عاصفة انتخاب رئيس جديد لها، ولن يكون في مقدور بوش أن يأخذ قرار الحرب، بالرغم من أن الدستور الأميركي يعطيه هذا الحق إلى الساعة الاخيرة التي تسبق خروجه الجسدي من البيت الأبيض في يناير من عام 2009.

يشيعون أيضاً أن فلاديمير بوتين، رئيس روسيا الاتحادية، أقدم على إعادة قاذفات القنابل الاستراتيجية، حاملة القنابل النووية، إلى السماء، بعد توقف دام 15 سنة، ليس رغبة منه في تأجيج الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة فحسب، بل لأنه يريد توجيه رسائل عدة الى واشنطن تبدأ بسياسة «نحن ما زلنا هنا»، وتنتهي بالتذكير بإمكان نشوب نزاع عالمي في حال إقدام بوش على تنفيذ مغامرته العسكرية الجديدة والتي من أهدافها - كما تعتقد موسكو - وضع الأمن القومي الروسي في عيون الخطر. فمنطقة الشرق الأوسط، تشكل البوابة الأمامية للأمن الروسي، وكذلك للأمن الصيني، ولا يجب التهاون في هذا الأمر مهما كانت النتائج، كما يؤكد واضعو الاستراتيجيات الروسية والصينية معاً.

يقولون أيضاً إن بوش قد يتبنى واحدة من «خطواته الذكية» ضدّ إيران حيث يوعز إلى إسرائيل القيام بالعمل الرديء، ويبقى هو، مع حشوده العسكرية في الخليج، لضمان السلامة والأمن والاستقرار، بواسطة انشاء «منطقة عازلة» تمنع امتداد نيران الحرب الإسرائيلية والإيرانية المتوقعة إلى دول المنطقة.

يشيعون أن إيران، في «رسائلها» إلى قطر وإلى عدد من دول الخليج، لم تنس التذكير، وبالتالي الردّ على مثل هذه «الخديعة» عندما قالت وبوضوح وصلت أصداؤه إلى الإعلامين العربي والعالمي، إن طهران تعتبر الولايات المتحدة واسرائيل «روحين في جسد واحد» في مجال الاعتداء عليها. وسواء أُطلق الصاروخ الأول من طائرة إسرائيلية أو من طائرة أميركية، فإن خطة الدفاع عن نفسها لن تتغير.

ما يزيد شكوك طهران حول نوايا واشنطن هو الرسائل والإشارات المتناقضة الصادرة من العاصمة الأميركية، التي تعتبرها العاصمة الإيرانية خطة مرسومة بدقة هدفها إصابة إيران بمرض «عمى الألوان» إلى درجة لا تستطيع معها التمييز بين ما هو حقيقي وما هو نصف حقيقي، وما هو إشاعة كاملة متكاملة. وفي اعتقاد المراقبين فإن طهران تعطي هذا الأمر أكبر من حجمه. فواشنطن هي الأخرى تعاني اليوم عمى الألوان هذا. وهناك أكثر من ظاهرة على صحة هذا القول.

فالإدارة الأميركية منقسمة على نفسها بشكل حادّ في ما يتعلق بكيفية التعامل مع إيران عسكرياً أو دبلوماسياً. وهي، إلى حين كتابة تلك الأسطر، لم تأخذ قرارها النهائي. مع أن كثير من المراقبين يميل إلى أن هذا القرار سيكون في النهاية عسكري المعنى والفعل استناداً إلى طبيعة صاحب القرار النهائي، وتركيبته النفسية والأيديولوجية. لكن إلى أن يحين وقت اتخاذ القرار فإن أروقة البيت الابيض تشهد نقاشاً حاداً مستمراً في الليل كما في النهار. فنائب الرئيس ديك تشيني حسم أمره، وهو يرى أن الخيار العسكري لا مفرّ منه. وقد اقترح منذ أسابيع عدة شن هجمات جوية متتالية على القواعد التي يستخدمها الإيرانيون لتدريب القوات الشيعية الموالية لهم داخل الاراضي العراقية. واقترح تشيني أيضاً أن تشمل هذه الضربات «مراكز محددة داخل الحدود الإيرانية» وذلك تهيئة لضربة كبرى «لا بد أن تأتي فيما بعد» كما نقل على لسان مسؤول في البيت الابيض رفض الإفصاح عن اسمه.

النقطة التي يجري بحثها بكثير من التدقيق هي: هل أن ضربة عسكرية كبرى للمنشآت النووية الإيرانية ولغيرها من البنية التحتية تؤدي الغرض المطلوب وهو إنهاء النظام في الدرجة الأولى و إنهاكه في الدرجة الثانية تمهيداً للعمل على إزالته بطرق أخرى مستقبلاً؟ لم يتم الاتفاق على تفاصيل هذه النقطة بعد بالرغم من أن بوش وتشيني يريدان أجوبة عن التساؤلات كلها المتعلقة بالموضوع الإيراني، عسكرياً وسياسياً قبل نهاية شهر سبتمبر المقبل.

لكن الاتفاق تم على ناحيتين: الأول، أن الإدارة الأميركية ملزمة للتعبير عن غضبها على إيران عسكرياً، بعد أن فشلت خطة وزيرة الخارجية في إعطاء نتائج ملموسة ومشجعة على الصعيد الدبلوماسي. والناحية الثانية، وهي أكثر أهمية من سابقتها، وتتمثل في أن حرب العراق وأفغانستان أفرغتا الاحتياط البشري الذي تملكه جيوش أميركا، مما يعني أن غزواً على الطريقة العراقية مستبعد الآن، لأنه لم يبق في الترسانة الأميركية سوى سلاح البحرية والطيران... هذا السلاح هو اليوم على استعداد كامل للقيام بتنفيذ الخطط التي وضعها البنتاغون عند اعطائه إشارة الضوء الأخضر. اما على صعيد الكونغرس، فإن إدارة بوش حصلت على تفويض الضربة العسكرية عندما صوت الكونغرس في 11 يوليو الماضي وبإجماع 97 عضواً ضد صفر، أي بإجماع الديموقراطيين والجمهوريين. وقد حرص الديموقراطيون الذين تقدموا بهذا المشروع على عدم إعطاء تفويض شامل بغزو إيران على الطريقة العراقية إلا بعد العودة إليه. أي أن الكونغرس قد كبّل يدي بوش من جهة ومنحه مساحة محدودة للعمل العسكري من جهة ثانية.

يجري كل ذلك والمنطقة بأنظمتها وجيوشها وثرواتها تقف متفرجة لا حول لها ولا كلمة، وفي حال حدوث التهديد الأميركي بالضربة العسكرية والتهديد الإيراني بالردّ بسياسة «الأرض المحروقة»، فإن المنطقة هي وحدها التي ستدفع الثمن الأغلى.

اقتراح: ماذا لو أن دول المنطقة وأنظمتها دخلت اللعبة، وهددت بوقف تصدير النفط إلى العالم كله، إلى أن تُحل المشكلة الإيرانية – الأميركية سلمياً، ألا تعتقدون أن استخدام هذا «السلاح السلبي» قد يدفع المجتمع الدولي إلى سرعة التفتيش عن حلول خارج إطار المدفع والصاروخ، وبالتالي ينقذ المنطقة بما فيها من كارثة حتمية؟

من الواجب التحرك، وبسرعة الأقمار الصناعية، لأننا، في هذا المجال، في سباق مع الزمن.

*كاتب لبناني