Ad

إن بلداننا لم تتأخر وتصبح في ذيل ركب التقدم والتنمية لأنها تفتقر إلى الموارد الطبيعية أو لأن عقولنا أغبى من عقولهم، وإنما لأن منظومة أفكارنا وتوجهاتنا وأسلوب حياتنا عبر سنوات طويلة من القهر والاحتراق في أتون الأنظمة المستبدة التي حكمتنا بالحديد والنار، قد مسخت وحوِّلت إلى منظومة غير منتجة قليلة الفاعلية فاقدة الإحساس.

نص منشور على الشبكة أثار هذا السؤال، ما السبب في أن دولاً ما متقدمة وغنية وأخرى تقبع في قاع السلّم؟ هل الفرق في طول عمر الدولة مثلاً؟ لا أظن ذلك، فمصر عمرها آلاف السنين، ولكنها اليوم من الدول غير المتقدمة والفقيرة، في حين أن كندا وأستراليا ونيوزيلندا، على سبيل المثال، لا تتجاوز أعمارها مئة وخمسين سنة وبالرغم من ذلك فهي من أغنى الدول وأكثرها تقدماً.

هل السبب عائد إلى توافر الموارد الطبيعية من عدمه؟ ليس هذا بصحيح أيضا، فثمانون في المئة من أرض اليابان تحتلها مساحات جبلية غير صالحة لشيء في المنظور المباشر، وبالرغم من ذلك فاقتصاد اليابان يعد من أقوى اقتصادات العالم. وكذلك سويسرا، ففي حين أنها لا تزرع الكاكاو في أراضيها وموسمها الزراعي والرعوي لا يتجاوز الشهور الأربعة، فإنها تنتج أفخر أنواع الشوكولاته وأجود مشتقات الألبان في العالم كله، حتى صارت اليوم من أغنى البلدان وغدت رمزاً للاستقرار والنظام والجد في العمل.

هل السبب يكمن إذاً في أن عقول البشر في الدول المتقدمة أكثر كفاءة منها في الدول غير المتقدمة؟ مرة أخرى نقول إن ذلك ليس هو السبب. فالعلم أثبت أننا لا نعاني من الغباء، وأنه لا علاقة للعِرق واللون بالقدرات العقلية. كثير من أبرز علماء الشركات العالمية ومديريها وقادتها يعودون بأصولهم إلى دول فقيرة وغير متقدمة. إذاً أين يكمن الفرق، ولماذا تقدمت دول ما واغتنت بينما تأخرت أخرى وافتقرت؟

تكشف الدراسات أن الفرق الأساسي راجع إلى أسلوب حياة الناس وتوجهاتهم ومبادئهم في الدول المتقدمة، هذه المنظومة التي تشكلت من خلال مناهج التعليم والثقافة عبر السنوات الطويلة. وبسبب هذا، فإن حياة الأغلبية العظمى من الناس هناك صارت تقوم على جملة من المبادئ أهمها؛ الالتزام بالأخلاقيات الأساسية Ethics، والحرص على الاستقامة وتحمل المسؤولية، والانضباط واحترام القانون واللوائح، ومراعاة حقوق الآخرين وعدم الإضرار بها، والتفاني في العمل والالتزام به، وكذلك الحرص على التوفير والاستثمار والتخطيط للمستقبل، في حين أن قليلاً من الناس يلتزمون بهذه المبادئ في الدول غير المتقدمة.

إن بلداننا لم تتأخر وتصبح في ذيل ركب التقدم والتنمية لأنها تفتقر إلى الموارد الطبيعية أو الأراضي الصالحة أو القدرات البشرية لأن عقولنا أغبى من عقولهم، وإنما لأن منظومة أفكارنا وتوجهاتنا وأسلوب حياتنا عبر سنوات طويلة من القهر والاحتراق في أتون الأنظمة المستبدة التي حكمتنا بالحديد والنار، أو في أفخاخ تلك الأنظمة التي تحكمنا بالديموقراطيات الشكلية المزيفة، قد مسخت وحوِّلت إلى منظومة غير منتجة قليلة الفاعلية فاقدة الإحساس، تلهث وراء لقمة عيش يومها، ولا يشغلها سوى همها الفردي ولو على حساب الآخرين.

لذلك لا سبيل أمام شعوب الدول المتأخرة، إن هي أرادت لبلدانها أن تصعد سلم الحياة والتقدم، إلا بالتخلص من أسر وطغيان الأنظمة الجاثمة على صدورها، ولن يكون ذلك بأساليب العنف والتدمير، وإنما بالنضال السلمي المتواصل ولو طال أمده، وبالعمل بعد ذلك شيئاً فشيئاً على تغيير هذه الثقافة السلبية التي غلّفت مجتمعاتها وأفقدتها القدرة على الإحساس.

قد تبدو الطريق طويلة وشاقة، ولكن كل طريق مهما طال لابد أن يبدأ بخطوة، وهذه الخطوة لن تأتي حتى يكون هناك إدراك حقيقي وعميق بأن المسألة مسألة بقاء أو انقراض، مسألة تقدم أو تخلف، مسألة حياة أو موت... فمتى ندرك ذلك يا ترى؟!