الأعاجيب السبع: صدام وختام بسام بلا سلام أو كلام

نشر في 14-07-2007
آخر تحديث 14-07-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد سألت نفسي طويلاً: كيف يمكن لثقافة بيروقراطية أن تنافس وأن تتواصل في عالم اليوم (عالم الإنترنت)؟

مناسبة السؤال هو المعركة الكبرى التى خاضتها السلطات الأثرية في مصر ضد اقتراع عالمي حول أعاجيب سبع جديدة للدنيا يتم اختيارها من خلال الاقتراع على الإنترنت.

السؤال له صلة بمكانتنا وصورتنا في العالم. وإدارة الصورة أو بثها ونشرها وتعزيزها بالممارسة صارت أهم أدوات التواصل الإنساني عبر الحدود، وهي بالتالي أهم أدوات السياسة الخارجية الجديدة في عالم لم تعد الدولة هي مركز الوجود، ولم تعد الحكومات تتحكم في كل شيء. دهشت وما أكثر ما يدهشني هذه الأيام المبتكرة، دهشت من الحمية والعدوانية ووفرة الطاقة التي بذلها مسؤولون في هيئة الآثار لمنع التصويت الإلكتروني حول عجائب دنيا سبع جديدة. وما تفتق ذهنهم عنه هو الهرولة لمنظمة «اليونسكو» لإعلان منع، ثم عدم الاعتراف بهذا التصويت. ولم يكن مهما عندهم أن «اليونسكو» لا تملك نفوذاً على هؤلاء الذين نظموا المسابقة، ولا على 100 مليون شخص صوتوا فيها على عجائبهم الخاصة! وحقق مسؤولونا نصراً مظفراً لأنهم أخذوا معهم «اليونسكو» في معركة خاسرة بكل تأكيد.

الاقتراع نظمه مغامر سويسري مع لجنة «عالمية» ضمت شخصيات غربية شهيرة وبالتعاون مع مصالح سياحية كبيرة. وكان من الواضح أن هذا الاقتراع يتم بعيداً عن الهيئات الدولية وعن الأسس العلمية المعروفة والمتفق عليها بين المتخصصين، وهذا هو ما قالته اللجنة المنظمة. قالت إن هذا الاقتراع يتم على مستوى شعبي وليس على مستوى رسمي، وإن انطباعات الشعوب لا تقل أهمية عن تقديرات وأحكام الخبراء. وكان من الواضح أيضاً أن ما دفع اللجنة المنظمة هو الحصول على «احتفال عالمي» يعزز المكانة الاحتفالية للأشخاص المنضمين إليها، كما أن الاعتبارات الربحية والتجارية كانت كامنة وراء هذا الابتكار الغريب كغيره من الابتكارات الغريبة.

لم يكن من المفيد بالطبع أن نتجاهل تماماً هذه المسابقة التجارية. ولكن لم يكن مفيداً لا الاهتمام الفائق بها ولا خوض المعركة بطريقة بيروقراطية. وصفت بيروقراطيتنا المسابقة بأنها ليست «علمية». ولم تكن هذه الحجة كافية إطلاقا لمنعها أو حظر الاحتفال بالنتائج، ذلك أن الاحتفال التلفازي «العالمي» كان أكثر من مجرد تتويج لهذا الاقتراع، فهو العائد الحقيقي لعملية تجارية كونية تمت على الإنترنت الذى صار الكنز الذي يجُب كل الكنوز التي لا تزال غارقة في قاع البحار والمحيطات والتي لا تزال مدفونة تحت الأرض.

لم يكن من الممكن خوض «معركة» كهذه باسم العلم. فلو أن الأحكام الشعبية أو الاحتفالات الصاخبة تتم باسم العلم لتم إعدام آلاف من الكتب الخرافية ودفن آلاف من الأساطير الشعبية. المعركة كانت حول وسيلة التصويت، ولم يكن من الممكن كسبها من دون التصويت الإلكتروني. وهنا تبدأ المشكلة: مسؤولونا لا يملكون طريقة لتعبئة ملايين من المصريين والعرب ومن كل الثقافات لخوض هذه المعركة ففضلوا الوسائل البيروقراطية العقيمة.

لم يفهم جهازنا البيروقراطي ولم تستوعب ثقافتنا السياسية أن ثمة أشياء كثيرة في العالم تتم لأنها «مشهد ممتع»، خاصة لو عرضت من خلال التلفاز والإنترنت، وأنها لا تخضع للمقاييس العلمية، بل لشطارة ومهارة المنظمين وقدرتهم على إقناع ملايين من الناس بالمشاركة فى هذه المشاهد الاحتفالية والكرنفالية الممتعة، وهذا ما نجح المغامر السويسرى إياه ولجنة المشاهير في تحقيقه. كان علينا أن نشخص المشهد أساساً باعتباره «استعراضا مبهجا Funfare»، لا حدثا علميا نهتم بأن ينتهي بحكم موضوعي حول ما يستحق أن يصبح «أعاجيب الدنيا السبع» الجديدة. وبالطبع كان من الضروري أيضا أن نضيف حقيقة أن هذا النوع من الاحتفالات الكونية مدفوع باعتبارات تجارية. فالمصالح المتخندقة في صناعة وبزنس السياحة كان لها دور كبير في ترويج الحدث. ومن ثم، فإن المخاوف من إهمال الأهرامات الفرعونية، وخاصة الهرم الأكبر مشروعة من هذه الزاوية، لأن الحدث يمكن أن يلفت نظر السائحين في العالم للأعاجيب المختارة من قبل جماهير الإنترنت.

وكان من الضروري أن نضيف بعداً آخر في تشخيص الاحتفال، وهو إمكان التلاعب بالعقول. فنظرية الاستغلال السياسي والتجاري الأميركي والأوروبي للإنترنت هي مجرد امتداد لنظرية الاستغلال السياسي والتجاري للتلفاز، وهي تقوم على الاعتقاد بأن جمهور النت، خاصة ذلك الباحث عن المتعة، هو «قطيع مسحور» يمكن إقناعه بسهولة وتعميم القناعات المزروعة عن طريق العدوى.

لم يكن لنا شأن بالجانب التجاري ولا بالجانب الاحتفالي من الموضوع. ما كان موضوعاً للقلق هو إمكان إزاحة الهرم الأكبر بالاقتراع الشعبي عن طريق التلاعب العقول. فإن قلت للجمهور مثلا إن تاج محل هو قصر أو إرث خالد للحب، وإن مبنى الكوليسيوم هو منبر للديموقراطية الشعبية، بينما الهرم الأكبر هو «مقبرة» فبوسع المتلاعبين بالعقول أن يظفروا بالتصويت الملائم لهم.

أمام هذه العملية كان لدينا ثلاثة اختيارات:

الأول، بسيط، وهو تجاهل الموضوع كله اعتماداً على أن الهرم الأكبر لن يخسر موقعه أبداً كأهم أثر عالمي وبين أعاجيب الدنيا السبع بسبب اقتراع على الإنترنت. ولا شك أن هذا لم يكن أفضل اختيار. الثاني، هو أن نخوض المعركة بوسائلها فنشرح للناس نظرية الهرم ودلالاته ليس كمقبرة، وإنما كرمز لمسعى الإنسان للخلود وباعتباره أيقونه بحد ذاته كشكل هندسي له دلالته الكونية، وأن نشرح مكانة فكرة الهرم في تطور الفكر الدلالي وفي تأمل الإنسان للكون وسعيه الى كشف مكنوناته. وكان يجب علينا أيضا أن نعبئ شبابنا المصريين والعرب وشباب العالم الأكثر ثقافة واهتماماً بالميراث المشترك للبشرية للتصويت على هذا الاقتراع.

أما الاختيار الثالث، فهو بالضبط الذي أخذت به بيروقراطيتنا الأثرية: أي محاربة الموضوع كله بصورة بيروقراطية آمرة اعتماداً على «الأحكام العلمية السليمة».

وقد تمكنت اللجنة المنظمة من أن تتجنب المعركة بكل بساطة بأن اعتبرت الهرم «خارج المنافسة» والأعجوبة «الشرف»، وهو ما جعل المعركة كلها غير ذات موضوع وأخرج الهرم الأكبر في الوقت نفسه من المشهد العالمي ومن خريطة الدعاية السياحية ومن ثقافة نشطاء الإنترنت. وخسرت بيروقراطيتنا المعركة الافتراضية جملة وتفصيلاً.

أهمية الموضوع ليست محصورة في الهرم ولا في مجمل العجائب الأثرية في منطقتنا العربية التي شكلت البيت الأساسي للحضارات القديمة. أهميتها هي في فهم متى وكيف نخوض معارك السياسة والفكر والثقافة على المستوى الكوني بعد أن جعل الإنترنت العالم قرية افتراضية واتصالية صغيرة. ببساطة لم تعد بيروقراطيتنا ولا ثقافتنا البيروقراطية تصلح لهذا النوع من المعارك.

وفي الوقت الحالي، ليس ثمة سبيل لإقناع جهازنا البيروقراطي الهائل والنائم على جبال من الأوامر واللوائح والقوانين العقيمة، أن وسائله التى أخافتنا قروناً وأجبرتنا على الاختفاء تحت جلودنا، لا تملك التأثير نفسه على شعوب أخرى. الأفضل أن نخاطب شبابنا الذي ينتشر في كل مكان بأن يقوم بمهمة التواصل الحق مع غيرنا من الشعوب، وإن بطريقة مختلفة عن القتلة النشطاء في تنظيم «القاعدة» والضباط النشطين في غرف التعذيب وتعقب المفكرين والكتاب وحتى عن أجهزتنا العلمية التي عكفت على حسم المعارك من خلف مكاتب متربة.

 

كاتب مصري

back to top