Ad

تبقى «الممانعة» الإسرائيلية حيال التسوية مع الفلسطينيين، أفعل من كل «ممانعاتنا»، إذ هي تحشد ما لا نحشد: القوة وموازينها، وحسن انتهاز المستجدات، وبعضها مما قدمه الجانب الفلسطيني، استخداماً غير رشيد للعنف، واقتتالاً وانشطاراً داخليين أديا إلى قيام «فلسطينين».

يبدو الطرفان الفلسطيني (والعربي استطراداً) وذلك الإسرائيلي، بصدد «الالتقاء» حول الأخذ بمبدأ العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل حرب سنة 1967، أي قبل احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، غير أن «الالتقاء» ذاك يتوقف عند ظاهر الأمور ولا يعد «بوفاق» مفضٍ إلى تسوية وإن مجحفة. إذ إن الطرفين، وإن استخدما نفس المفردات، لا يتكلمان لغة واحدة، فهما كمن يجمع بينهما سرير واحد ويفرق بينهما حلمان نقيضان، كما قيل ذات مرة حول تواشج الصين وروسيا حول الشيوعية وتنافرهما في كل ما عداها، بل إن حلم أحد الطرفين، ذلك الإسرائيلي، هو في هذه الحالة، كابوس الطرف الثاني، ذلك الفلسطيني.

فالعودة إلى ما قبل النصاب الناجم عن هزيمة الحرب الحزيرانية (يونيو)، تتخذ لدى الجانب الفلسطيني-العربي، معنى حدوديا، ترابياً، لا يتعداه، قوامه انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها آنذاك، لتستوي حيزاً ومجالاً للدولة الفلسطينية المنشودة، تكون حدود ما قبل الخامس من حزيران (يونيو)، وإن مع إدخال تعديلات يصار إلى التداول في شأنها تعييناً وتثبيتاً، حدودها الدولية المعترف بها... ذلك هو جوهر المقاربة الفلسطينية والعربية لتسوية النزاع، منذ إعلان منظمة التحرير، في سبعينيات القرن الماضي، استعدادها لإقامة دولة على أي جزء من الأرض السليبة يتحرر، حتى «المبادرة العربية» التي أقرتها قمة بيروت العربية، وكانت في الأصل مبادرة سعودية، وحتى مؤتمر أنابوليس الأخير.

أما لدى إسرائيل، فتنضوي تلك العودة إلى النصاب ما قبل الحزيراني (يونيو)، مفهوماً ومنطقاً في منحى أكثر جذرية، قد يحيل الجانب الحدودي للمشكلة إلى مرتبة دنيا أو إلى هامش تابع، على أهميته، أو أنه لا يُنظر إليه، على أي حال، إلا مقترناً بغاية أخرى، جوهرية لدى الدولة العبرية في مقاربتها للمسألة الفلسطينية، تلك المتمثلة في العودة بالوجود الفلسطيني إلى حالة السديم السياسي التي كان عليها، قبل قيامه حركة ومطالب وطنية، عندما كان ذلك الوجود لا يعدو أن يكون «نثار» أفراد، عديم مقوّمات التعبير الذاتي، موزعاً بين لاجئين في المنافي، وبين «سكّان» (أي ضرب من مادة خام بشرية، ما قبل السياسية أو دون السياسية) في قطاع غزة، يقعون تحت الإدارة المصرية، وفي الضفة الغربية يخضعون إلى إشراف أردني.

يبدو أن إسرائيل، وإن لم تفصح عن ذلك لكن كل مسلكها يفيده ولا يمكن فهمه إلا به، إنما تتصور العودة إلى النصاب ما قبل الحزيراني على هذا النحو. ومن هنا سعيها الدؤوب إلى إجهاض كل تسوية لأن اجتراحها والتوصل إليها من شأنه أن يمثل إقراراً بالوجود الوطني الفلسطيني الذي تعتبره نقضاً لوجودها. فالأقنوم الذي قام عليه المشروع الصهيوني، والذي اعتبر فلسطين «أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض» أقنوم تأسيسي، وأداة تسويغ بالغة القوة، لايزال راهناً ولم يُلغ ولم يُتجاوز، وهو أقوى على أي حال، بصفته تلك، من المحرقة التي نبدد الجهد ونهدر رصيداً أخلاقياً فيه كان يجب أن يكون في صف القضية الفلسطينية.

لذلك، تبقى «الممانعة» الإسرائيلية حيال التسوية، أفعل من كل «ممانعاتنا»، إذ هي تحشد ما لا نحشد: القوة وموازينها، وحسن انتهاز المستجدات، وبعضها مما قدمه الجانب الفلسطيني، استخداماً غير رشيد للعنف (الذي لا يُدان في ذاته، حقاً مشروعاً) واقتتالاً وانشطاراً داخليين أديا إلى قيام «فلسطينين»، تلك التي في غزة، تُواجَه بالحرب والدمار والحصار، وتلك التي في الضفة الغربية، تُواجه بتفاوض لا يثمر، يُتعهد به قولاً وإجراء لقاءات وحضور مؤتمرات، ويجري نسفه وتقويض حظوظه فعلاً، بالمضي في إنشاء المستوطنات وقضم الأرض، إبطالاً للأسس المادية لقيام الدولة الموعودة.

وقد جاء ما يعرف بـ«أزمة غزة» الأخيرة والجارية، وهي في الأصح والأدق مأساتها، مناسبة للجهر بما كان مضمراً في ذلك الصدد. فقد صرح مسؤولون إسرائيليون، بعد فتح معابر رفح أو اقتحامها، بما يفيد ترحيباً أو نية بإيكال أمر القطاع إلى مصر، تتولاه وتخلص الدولة العبرية من عبئه، على ما كانت الحال قبل احتلاله في سنة 1967، كما عاد الحديث، موازاة لذلك، عن «الخيار الأردني»، يخص الضفة بداهة، وإيكال أمر سكانها، من دون أرضهم أو كلها على الأرجح، إلى المملكة الهاشمية... مخرجاً يجعل إسرائيل في حلّ من قيام الدولة الفلسطينية، ذلك الذي يمثل الامتناع عنه ودرء إمكان حصوله، «ثابتا» من «ثوابت» الكيان العبري، بل أكثر تلك «الثوابت» ثباتاً.

يجب عدم الاستهانة بذلك الاحتمال بادعاء «لا واقعيته»... صحيح أن الدول العربية المعنيّة سترفض تولي تلك المهمة، لأسباب مبدئية أو سياسية، لكن الدولة العبرية، التي تكاد تنفرد بزمام المبادرة، قد تضعها في ذلك الصدد أمام أمر واقع، مقضيّ، ليس دون النهوض به من بدّ، أقله لدوافع أمنية أو لاعتبارات إنسانية ملحة تهيئ ظروف وشروط تفاقمها.

لكل ذلك، فإن إعادة القضية الفلسطينية إلى النصاب ما قبل الحزيراني، سديماً سياسياً وفق التصور الإسرائيلي، خطر وارد داهم، خصوصاً أن الوطنية الفلسطينية قد أخفقت في الاستواء واقعة ماثلة متينة، لا رجعة فيها.

* كاتب تونسي