إن كل المؤشرات العسكرية، ومن بينها المناورات الإسرائيلية الأخيرة، تشير إلى أن الإسرائيليين حكومة وشعباً يخشون من وقوع اللحظة الحاسمة من تاريخ إنشاء دولتهم، وهي خسارتهم للحرب الواحدة المطلوبة، ولو لم يكونوا كذلك لما ملؤوا الدنيا بضجيج دباباتهم وطائراتهم وصواريخهم وأقدام جنودهم وأطفالهم ونسائهم وعمالهم.لم تخسر إسرائيل حصانتها الدفاعية إثر عدوانها على لبنان صيف 2006 فحسب، بل خسرت أيضاً حصانتها الفكرية والإعلامية حيث لم تعد تلك الدولة التي تشكل سراً من الأسرار بالنسبة للعالم العربي، أو أحجية تصعب قراءتها، أو كلمات متقاطعة صعبة الحل. فبالرغم من المراقبة العسكرية على كل ما يحدث في إسرائيل ومنعه من تخطي الحدود والانتشار في عاملها الخارجي، وبصورة خاصة كل ما من شأنه أن يكشف أو يساهم في كشف التركيبة العسكرية، فإن الصحافة الإسرائيلية التي تعتبر نفسها أكثر ليبرالية من الصحافة الغربية والأميركية، ولا تفوّت فرصة إلا وتعلن ذلك بكثير من الاستعلاء... إن هذا الجسم الصحافي تمكن من إحداث ثغرة في حصن الرقابة العسكرية المنيع في أكثر من جهة، وبات يتصرف بحرية محدودة لم يكن مسموحاً بها قبل حرب 2006. وقد أشارت صحيفة «هآرتس» إلى هذه الظاهرة في أكثر من مناسبة وتبعتها مطبوعات عبرية أخرى. مشيرة إلى أن مرد ذلك يرجع إلى خسارة حرب 2006، وإن من حق المواطن الإسرائيلي، وبالتالي من واجب الصحافة أن تطلع المواطن الإسرائيلي على ما جرى وما يجري ضاربة عرض الحائط بقوانين المراقبة ومن يراقبون. لكن هذه الظاهرة لم تعش طويلاً، فسرعان ما استعادت الرقابة العسكرية كامل سيطرتها بعد صدور تقرير فينوغراد.
خلال عمر «الحرية» الصحافية القصير هذا، ركزت أجهزة الإعلام الإسرائيلية على الحالة النفسية التي رافقت أيام الحرب وما بعدها، مشيرة إلى موجة الإرباك والارتباك وما يرافقهما من عدم وضوح الرؤية، والتشكيك بالثقة بالنفس تلك الثقة التي اشتهرت بها الدولة العبرية منذ إعلان قيامها في العام 1948 إلى يومنا هذا، معتبرة أن خسارة هذا السلاح هو أشدّ إيلاماً على النفس الإسرائيلية من الدبابات والطائرات والجنود القتلى والجرحى، مشدّدة على ضرورة استعادة هذا السلاح قبل أي شيء آخر، كي تعود إسرائيل إلى سابق عهدها في ممارسة هيمنة القوة على المنطقة والتي من دونها ستفقد إسرائيل واحداً من عناصر بقائها.
وقد اتفق معظم المحللين الإسرائيليين الذين تناولوا هذا الموضوع على أن المناورة العسكرية التي قام بها الجيش الإسرائيلي، والتي صورتها أجهزة الإعلام بأنها من أضخم المناورات في تاريخها، هي للاستهلاك الداخلي وتشكل بداية حملة إعادة الثقة بالنفس للمجتمع العسكري أولاً، وبالتالي استرجاع ثقة المجتمع المدني بعسكرييه ثانياً. هذا بالإضافة إلى أهداف أخرى تتلخص بالعودة إلى نشر الرعب في قلوب الأعداء العرب المجاورين والبعيدين جغرافياً على حد سواء.
ولأول مرة في تاريخها، خرجت إسرائيل عن تقاليدها العسكرية، فبينما كانت تعتمد في السابق على السرية والصمت المطبق في كل ما يتعلق بالشأن العسكري، فتحت اليوم أبواقها وأبوابها السرية، وعلى ألسنة كبار مسؤوليها لتزيد من «ضخامة» هذه المناورات، بغية الوصول إلى هدف رفع روح القدرة العسكرية عند حامل السلاح، ولرفع معنويات المجتمع المدني تجاه «حماة وطنه» خاصة بعد أن انتشرت قصص عديدة حول استعداد مجموعات من المستوطنين اليهود للهجرة من إسرائيل والعودة إلى وطنهم الأصلي. والمثير أن هذه المجموعات التي تداولتها الألسن الإسرائيلية، ونقلت بعضاً منها الصحف، تنتمي إلى المستوطنين اليهود الذين تركوا بلدهم الأصلي في مختلف مناطق الولايات المتحدة، وجاؤوا إلى إسرائيل للدفاع عن رايتها العنصرية.
إن تقرير الخبراء الأميركيين، المنشورة وغير المنشورة، تعتبر هذا النوع من المستعمرين ذوي الجنسية المزدوجة الأميركية - الإسرائيلية هم أكثر اليهود تعصباً ضد حلّ المشكلة الفلسطينية على أساس قيام دولة فلسطينية قابلة للعيش. كذلك اعتبرت بعض مراكز الدراسات الاستراتيجية أن هؤلاء المستوطنين الأميركيين يشكلون العقبة الكأداء في وجه أي حلّ يعطي الفلسطينيين جزءاً من حقوقهم، ويعيد إلى عرب الجوار أراضيهم المحتلة منذ العام 1967.
وإذا أردنا أن نسير قُدُماً في هذا الاستنتاج التحليلي، علينا أن نعتمد المقولة العربية: «اشتدّي أزمة تنفرجي». فكلما شعرت إسرائيل، بحكومتها وعيشها وشعبها أن التاريخ لا يلعب إلى جانبها، وأن القوت البشري العربي محكم عليها حتى الخناق، وأنها لم ولن تستطيع فكّ هذا الطوق إلا في حال تقديم تنازلات تعطي شيئاً مما أخذته بالقوة إلى أصحابه الحقيقيين... عندها ربما تستيقظ إسرائيل وترى أمامها طريقين لا ثالث لهما: طريق البقاء أو طريق الرحيل ولو بعد حين، لكن هذا لن يحدث إلا بعد أن تتخلص من الوهم الديني القاتل بأن العناية الإلهية التي «وعدتها» منذ قيام التاريخ بأرض فلسطين ليست أكثر من وَهمٍ كاذب لا حقيقة تاريخية ولا دينية له.
يبدو أن هذا الأمن الذي ينتظره أصحاب الرؤية الواقعية من العرب ومن الإسرائيليين وحتى من الأميركيين أنفسهم ليس مستحيل الحدوث. فالنقاش الدائر في إسرائيل حالياً بين مختلف التيارات الفكرية والدينية والسياسية قد وصل إلى المفصل الحساس بعد 60 سنة على إعلان قيام إسرائيل على الأرض الفلسطينية. والسؤال المطروح في طول إسرائيل وعرضها الآن: هل لنا القدرة على مقاومة «العناد» العربي جيلاً آخر، وربما أجيالاً أخرى، وبالتالي: لماذا لا نعود إلى المنطق العقلاني والجغرافي ونلتقط اليد العربية التي مُدّت إلينا في عام 2000 في بيروت واستمرت في الامتداد إلى هذا الوقت وبذلك نحافظ على بقاء إسرائيل، وعلى توفير الأمن والأمان لأبنائها ولأحفادها من بعدهم؟
هناك من يقول إن إسرائيل لم تستيقظ بعد من «حلمها الديني» وهي ليست مستعدة لالتقاط اليد العربية. ولعل المناورات الضخمة التي أجرتها إسرائيل على حدودها الشمالية (لبنان وسورية) خير دليل على استمرارها بمعاندة الواقع وعدم التسليم بمنطق التاريخ وقوانينه. وهناك من يأخذ إجراء هذه المناورات على أنها علامة قوة للمنطق العقلاني ونقطة ضعف للممارسة العسكرية. فإسرائيل بمناوراتها التي شملت الكبير والصغير، الجندي المحترف والعسكري المتطوع، والطالب في مدرسته أو جامعته، والعامل في حقله أو في مصنعه، أكدت لمواطنها -من دون أن تقول ذلك- أن مستقبله مليء بالخوف، وأن معركة فلسطين لم تنته بإعلان قيام الدولة في العام 1948، بل إنها مستمرة إلى ما شاء الله.
إن هذا العامل السلبي في المناورات إذا ما أخذناه في الحسبان، يصبّ في خانة «دعاة السلم» الإسرائيليين، وهؤلاء موجودون فعلاً لكن أصواتهم «مبحوحة» في الوقت الحاضر. وهذا يعني أنه كان القصد من وراء المناورات تخويف العرب ودفعهم إلى السلم الإسرائيلي الاستسلامي فقد كان بمنزلة صاروخ نفسي حادَ عن مداره ليصبح أداة تخويف للإسرائيليين بأنهم سينامون سنوات وسنوات، وربما أجيالا بكاملها بأحذيتهم العسكرية وإلى جانبهم البندقية.
إن فلاسفة الحروب يتفقون كلهم على القول إن الخوف من الحرب أشدّ أثراً على النفوس من وقوعها الفعلي. وإن كان الأمر هكذا فإننا نستطيع القول إن المناورات الأخيرة قد تكون عنصراً إيجابياً، وخطوة متقدمة نحو السلام الشامل والعادل. ولتحقيق هذا الأمل على إسرائيل أن تقوم بخطوتين مماثلتين إلى الأمام وبأسرع وقت ممكن، لأن اليد العربية لن تبقى ممدودة إلى النهاية، وهي تشكل الفرصة الذهبية الأخيرة لتحقيق السلام... الخطوة الأولى هي في «كتم» أصوات المستوطنين الإسرائيليين، ومعظمهم من اليهود الأميركيين حاملي الجنسية المزدوجة. هؤلاء المستوطنين الذين يعتبرون أن بإمكانهم كسر شوكة الأكثرية العربية المطلقة المحيطة بإسرائيل بطريقة واسلوب أجدادهم مستوطني الأرض الأميركية في إبادة جنس السكان الأصليين من الهنود الحمر وإلغائهم من التاريخ والجغرافيا. أما الخطوة الثانية التي لا تقل أهمية عن الخطوة الأولى فهي القبول الكامل غير المنقوص بقرارات المجتمع الدولي. فالقوة الوحشية تستطيع أن تربح معركة أو عدة معارك وليس الحرب. وإسرائيل بحاجة إلى خسارة حرب واحدة كي يهتز وجودها وكيانها. أما العرب فقد خسروا حروباً كثيرة ومازالوا يقاتلون بالحجارة والعصي وهم يزدادون قوة مع مرور الزمن.
إن كل المؤشرات العسكرية، ومن بينها المناورات الإسرائيلية الأخيرة، تشير إلى أن الإسرائيليين حكومة وشعباً يخشون من وقوع اللحظة الحاسمة من تاريخ إنشاء دولتهم، وهي خسارتهم للحرب الواحدة المطلوبة، ولو لم يكونوا كذلك لما ملؤوا الدنيا بضجيج دباباتهم وطائراتهم وصواريخهم وأقدام جنودهم وأطفالهم ونسائهم وعمالهم و... إلخ.
إن الوضع في منطقتنا العربية مشحون حتى الثمالة بكل أنواع التفجير، وهو يسير على حافة عدم السيطرة سواء من القوى الداخلية أو الخارجية أو حتى القوى العظمى. والكرة المتفجرة تقترب شيئاً فشيئاً من الشباك الإسرائيلية، فهل تستيقظ إسرائيل وتلتقط الفرصة الأخيرة قبل فوات الأوان؟
حدوث ذلك يتطلب معجزة، لكن زمن المعجزات قد راح وولّى.
* كاتب لبناني