مهما تكن الاعتراضات العربية الراهنة على الشرق أوسطية عنيفة وعدوانية في ظاهرها فإنها في الجوهر دفاعية. ومشكلتها الأهم أنها اعتراضات ضالة ومتهافتة، تعزز النظام بدل أن تضعفه، لأنها تصدر عن دوافع تتصل بالهوية لا بالمساواة.«الشرق أوسطية» إيديولوجية تناغمية إلى هذا الحد أو ذاك، لا يشكل كتاب شيمون بيريز «الشرق الأوسط الجديد» غير صورة واحدة لها. ثمة صور أميركية أو غربية مماثلة، تناغمية بدورها، تتحدث عن شراكات أمنية واقتصادية مؤسسة على سلام عربي إسرائيلي. ولا تسوغ نفسها بغير اعتبارات تحيل إلى الأمن والسلام والازدهار المتبادل مشاريع امبراطورية مثل الشراكة الأميركية الشرق أوسطية والشرق الأوسط الكبير والواسع والأوسع، جاد بها الأميركيون في السنوات التالية لهجمات 11 سبتمبر 2001.
على أن الشرق الأوسط في الجوهر نظام إقليمي تدين السيادة العليا فيه للأميركيين، وهو نظام مدول بعمق تفتقر الدول فيه إلى السيادة على عملياتها الداخلية، وبالخصوص على التغيير السياسي فيها. وكما أن الوعي الذاتي لأي منا لا يعكس واقعه وموقعه بصورة أمينة، فإن الإيديولوجية الشرق أوسطية ليست هي الشاهد الأمين على الشرق الأوسط كنظام إقليمي. فهذا قائم جوهرياً وتأسيسياً على اللامساواة، إن في السيادة أو في القوة أو في التنمية، فيما تنبني الإيديولوجية الشرق أوسطية على التناغم والمساواة والشراكة. لكن، وكما هو الحال في كل إيديولوجية تناغمية، فإن التناغم مؤسس على التراتب ولزوم كل طرف في النظام موقعه الثابت. ويجري تلفيع وقائع السيطرة والخضوع بنوع من توزيع الأدوار والمؤهلات وتقسيم العمل الثابت على نحو ما أورد بيريز في كتابه.
والغريب أن ما ترفضه نظم أو منظمات أو ناشطون عرب هو الإيديولوجية الشرق أوسطية، وليس النظام الشرق أوسطي. إذ توحي الانتقادات العربية أن الشرق أوسطية خطر محتمل، ولا تتبين أنها نظام إقليمي هي منخرطة فيه من حيث تظن أنها تعترض عليه. بل إنها وبقدر ما تظن أنها تقاومه، تحدد نفسها به تحديدا تاما، فتنتهي إلى أن تنسخ بنيته التراتبية اللامساواتية. هذا لأن الاعتراضات العربية تنطق باسم الهوية لا باسم المساواة والتحرر. إسرائيل وأميركا لا يندد بهما لأنهما ترفضان المساواة والندية، والسياسة، مع العرب، بل لأنها قوى أجنبية أو غريبة. لذلك يفقد الاعتراض العربي روحه التحررية والديموقراطية، إلى درجة أنه يترك زعم الديموقراطية للمحور الأكثر عدوانية والأقل قبولا بالمساواة. وتنتهي دولنا ومنظماتنا، «الممانعة» منها بالخصوص، لأن تمسي شرق أوسطات صغيرة، تحتل طغم ضيقة موقع أميركا في قمتها، ولا تمتنع أي منها، تماما مثل إسرائيل في فلسطين، عن سحق تمردات الجمهور المحتملة أو سعيه إلى حيازة شيء من الاستقلال والقوة الذاتية.
هل يمكن أن نتكلم على شرق أوسط عابر للقوميات ومتعدد الثقافات؟ مجال حضاري متفاعل، متعدد الأديان والثقافات واللغات، يشمل الأتراك والإيرانيين والأكراد، فضلا عن العرب والإسرائيليين؟ لم لا؟ لكن هذا إما اسم لعملية تاريخية مديدة جدا بحيث تتصاغر أمام مداها الواسع وقائع التراتب والسيطرة القائمة التي قد تبدو ذات يوم مرحلية وعارضة (تلزم قرون من أجل ذلك، ما يجعل كلامنا عليها اليوم ضئيل المعنى)؛ أو هو إيديولوجية تناغمية بدورها تغفل وقائع السيطرة والتراتب لأسباب غير مفهومة، قد يكون مبعثها عارضا ومرحليا.
يحصل ذلك أحيانا تعبيرا عن الضيق من عروبة حرون، لا تتعاون مع غيرها ولا تنجز شيئا من وعودها المفترضة. بيد أن التصور هذا لا يشكل نقيضا لرفض عروبي ماهوي (أو «هويتي») للشرق أوسطية، لأنه يشاركها إغفال ما تغفله هي من وقائع السيطرة واللامساواة المميزة للنظام. وفي مثل هذه الشروط، وبفعل مثل هذا الإغفال، يجنح التصور العابر للقوميات للشرق الأوسط إلى أن يمسي تنويعة من الإيديولوجية التناغمية الشرق أوسطية ذاتها. ولعل ما يفوت هذا التصور الانفعالي والنافد الصبر أنه مهما تكن الاعتراضات العربية الراهنة على الشرق أوسطية عنيفة وعدوانية في ظاهرها فإنها في الجوهر دفاعية. ومشكلتها الأهم أنها اعتراضات ضالة ومتهافتة، تعزز النظام بدل أن تضعفه، لأنها تصدر كما أشرنا عن دوافع تتصل بالهوية لا بالمساواة، ولأن تجسداتها الراهنة، كما أشرنا أيضا، تحاكي بنية النظام ذاته التي يفترض أنها تعترض عليه. بالمقابل إن المحور المقرر في النظام، المحور الأميركي الإسرائيلي، عدواني وهجومي رغم إعلاناته السلمية وخطاباته المعسولة. إن موقع العرب اعتراضي ضمن النظام، وتاليا تحرري، فيما وعيهم الذاتي وهياكلهم السياسية غير تحررية؛ بالمقابل إن موقع المحور المقرر معاد للتحرر، لكن إيديولوجيته وهياكله السياسية أكثر إنصافا وتحررية. هذا أمر يسوغ التفاؤل بمستقبل يتطابق فيه الوعي والتنظيم الذاتي مع الموقع التحرري. وبقدر ما إن المفارقة تلك، بين الموقع ووعيه وسياسته، أسقطت العرب منذ أربعة عقود في لجة من الضعف والتبعية والتدمير الذاتي، فإن المطابقة بين الموقع والوعي والسياسة هي الأساس الذي يمكن أن تنتصب عليه تحررية عربية جديدة.
على أن هناك شيئا ثمينا في تصور الشرق الأوسط كمجال حضاري اقتصادي وسياسي عابر للقوميات هو توافقه مع نزعات عميقة وعريقة في تاريخ المنطقة إلى التمازج والاختلاط والتفاعل منذ عصور قديمة، وكونه بالخصوص قد يكون الشكل الأنسب لتجاوز تقسيمات أحدثها الغربيون في المنطقة مراعين مصالحهم وسيطرتهم فقط. على أن هذا يقتضي من كل بد تحولا جوهريا في الكيان الإسرائيلي القائم، باتجاه اندراج الجماعة اليهودية في المنطقة على قدم المساواة مع غيرها. وهذا بدوره ربما يكون متعذرا دون إضعاف المركزية الغربية في المنطقة، وربما في العالم.
* كاتب سوري