الغاطس في عتمته

نشر في 07-04-2008
آخر تحديث 07-04-2008 | 00:00
No Image Caption
 فوزية شويش السالم فن كتابة الرواية يحتاج إلى عوامل كثيرة سبق أن ذكرتها في شهادة لذاكرة الإبداع الروائي، لعل أهمها في رأيي عامل الخيال، الذي يُنبت الفكرة، ثم يليه في الأهمية الشغف، فهو الدافع أو المحرك لتجسيد الخيال إلى واقع فني ملموس.

كان هذا الخيال ومازال «ماكينة» إنتاجي كلِّه من رسم وشعر ومسرح ورواية، وأشياء أخرى، ولولاهُ... ربما ما كان لي أثر.

فمن غرفة المؤونة تلك التي كانت في منزلنا، وأنا في التاسعة من عمري، اكتشفت فيها صناديق لكتب تركها أحدهم وغاب، لتكون لي كنز «علي بابا» الذي غطست في مغارته، وعثرت على خيالي المطموس فيها.

تلك الكتب أخرجت ماردي من القمقم، وأدخلتني دهاليز الألغاز، والهرولة في سراديب الغاطس في عتمته، والمنذور للكشف عنها.

أسرار «أجاثا كرستي» وغموض «شرلوك هولمز» ومكر «أرسين لوبين» حركوا الكامن فيّ خيالي الفالت من عقاله، والمحتاج إلى راعٍ ومعلم ليدرب أداءه غير المنضبط، ويوظفه في إدراك الكشف المعرفي.

ذاك التدريب لم يُبق سكيناً ولامدقة ولامقصاً في المطبخ إلا وكانت أدوات أخفيتها في قرار مكين من غرفة المؤونة.

كم كانت تلك الغرفة تعني لي سحر الخيال كله ببراميلها، وخياش الأرز والجريش، وباقي المعلبات المرصوصة، وصناديق الكتب المرصودة بي.

مسرحي الأول ورواياتي الأولى كانت هناك، انبثقت من البراميل، حولها، خلفها، فوقها وتحتها.

كان لها الفضل الأول في تدريب الخيال وسكبه في تصور فني بدائي، ولكنه كان ومن دون وعي مني، البذرة التي خرج منها كل ما جاءني.

وأتصور لو كان في تلك الغرفة حكايات مثل «سيد الخواتم» و«هاري بوتر» أو الرجل العنكبوت، والمخلوقات الفضائية، وغيرها من كتب الخيال المتفوق، ماذا سيحصل لي في ذاك العمر الصغير، وما قيمة الأثر الناتج من بعده؟

هذا السؤال جعلني أفكر في عباقرة الفن والكتابة، لو أن طفولتهم غُذيت بكل ما يشاهدهُ الأطفال الآن، من أفلام وبطولات خارقة، وكتب تأتي بأفكار غير متوقعة، وتفتح أبواب معرفة للطفل مليئة بكنوز وجواهر حقيقية، وليست بمثل تلك التي كانت في غرفة المؤونة.

هل لنا أن نتخيل ماذا سيكون عليه إنتاج كافكا، وجويس، ومارسيل بروست، وليم فوكنر وغيرهم؟

صحيح هناك الإلياذة لهوميروس، وتحولات اوفيد، كتب الأساطير والأديان... إلخ ولكن هذه الكتب يدركها العقل بعد تخطي مرحلة الطفولة، بعد اجتياز عتبة الخيال البرّي غير المهجن، وغير المدرَك للعقل وترتيباته.

الخيال يتغذى من منابعه الأولى، من فطرة طفولته، ثم ينمو بعد ذلك، ليتحول إلى دستور سري يغذي مسيرة الفنان حتى نهايته.

أتذكر جواباً لغابريل غارسيا ماركيز حين قال لصحافي: «إنه يخاف من الظلام، وإنه لاينام من دون ضوء منار في الغرفة».

وحين استغرب الصحافي من إجابته، قال له: لا تستغرب مازلت أخاف من خيالي الذي تأتي به الظلمة، هذا الخيال هو أساس العمل العظيم، وكل الأفكار آتية من قوة تدفُّقه واشتعاله، حتى ان جعلنا أطفالاً نخاف من ظلمة غرفنا ونترك النور فيها مضاء، أنا لا أخجل من خيالي الذي يتركني أنام في غرفة مضاءة حتى الصباح.

back to top