الكتب وشهادات الجودة

نشر في 14-03-2008
آخر تحديث 14-03-2008 | 00:00
 محمد سليمان يحتاج الكتاب أحياناً لكي ينتشر ويسعى إليه القراء إلى شهادة جودة يوفرها الاحتفاء الإعلامي والنقدي به أو مقدمة تزكيه أو إشادة به وبكاتبه من كاتب راسخ وشهير، وقد كنت في صباي مبهوراً بأعمال مصطفى صادق الرافعي وكان لكتابه «وَحي القلم» الذي زكاه وأشاد به الزعيم سعد زغلول مكانة خاصة لدي دفعتني إلى استعارة الكتاب من مكتبة المدرسة ثم ادعاء فقده واحتمال العقوبة من أجل الاحتفاظ به.

إشادة سعد زغلول كانت شهادة جودة حظي بها الكتاب ووساماً معلقاً على صدر الرافعي وسبباً لاهتمامي بكل كتاباته في صباي كما رسخت لدي عادة البحث عن دلائل جودة الكتاب وأهميته قبل اقتنائه، وهي عادة لها بالإضافة إلى وجهها الإيجابي سلبياتها التي تتمثل في تقليص هامش المغامرة واكتشاف كُتاب ومبدعين جدد لا تحمل أغلفة كتبهم شهادات أو إشادات بمواهبهم وقدراتهم تستثير القارئ وتغريه.

شهادة الجودة كانت إذن ومازالت مطلباً ينشغل به معظم الكتاب لذلك يلجأ بعضهم أحياناً إلى رص عبارات النقاد وكبار الكتاب على أغلفة كتبهم لاكتساب ثقة القارئ وإغوائه وأحياناً إبراز الجوائز التي حصل عليها الكاتب واللغات التي تُرجمت أعماله إليها.

وهذه الشهادات كانت أيضاً مطلوبة في الماضي القريب والبعيد يسعى خلفها الكتاب ويتفنّنون للحصول عليها وإلصاقها بكتبهم، فبعضهم كان لا يضع اسمه على كتابه مفضلاً نِسبته إلى المجهول ولدينا في تراثنا كتب لا حصر لها مجهولة المؤلف في مقدمتها «ألف ليلة وليلة» وأحياناً كان الكاتب ينسب كتابه إلى كاتب شهير سابق، أي إلى الماضي العظيم والتليد والأعلى قيمة ويقنع بدور الراوي الذي يحدث معاصريه عن الكتاب أو يفسره ويغريهم بنسخه واقتنائه.

وبوسعنا الآن أن ندرك مدى قسوة وبشاعة الحروب الفكرية والإبداعية التي كانت أيضا ًمشتعلة في الماضي والتي خوفاً منها وبسببها كان الكاتب يتخلى عن كتابه وينزل برُتبَته راضياً بدور الراوي ليحمي كتابه من التحامل النقدي ومن المختلفين معه فكرياً أو سياسياً.

وفي كتابه الجميل «الكتابة والتناسخ» يحدثنا الكاتب والناقد المغربي عبدالفتاح كليطو عن الجاحظ ومسألة التزييف قائلاً: «ما أكثر مؤلفي الكتب المنحولة الذين لم يعترفوا بتزويرهم ولم يُطلعوا أحداً على أسرارهم وما أقل أولئك الذين اعترفوا بأنهم وضعوا نصوصاً منحولة» وينتمي الجاحظ لهذه الفئة الأخيرة فهو يعترف في إحدى رسائله بأنه نسب بعضاً من كُتبه إلى كُتاب سابقين. الجاحظ العظيم أحد أعمدة النثر العربي كان يخشى معاصريه المنافسين الذين ينتظرون فرصة ما للانقضاض عليه والنيل من كتابه وتقليل قيمته والإيقاع به فنسب بعض كتبه إلى غيره قائلا: «وربما ألفت الكتاب وأحلته على من تقدمني عصره مثل ابن المقفع والخليل فيأتيني أولئك القوم لاستنساخ الكتاب وقراءته علي ويكتبونه بخطوطهم ويجعلونه إماماً يقتدون به ويتدارسونه بينهم ويروونه عني لأنه لم يُترجم باسمي ولم ينسب إلى تأليفي». الإحالة إلى الماضي في عصر الجاحظ أو نسبة الكتاب إلى مؤلف مجهو ل والاكتفاء بدور الراوي حمت الكتاب ووفرت له الظروف الأفضل للتأثير ومنحته في ذلك العصر شهادة الجودة اللازمة للرواج والانتشار.

ويجرنا هذا الكلام إلى حكاية الصحافي البريطاني الشهير روبرت فيسك وكتابه المزعوم، فقد تلقى الرجل وهو في بيروت مظروفاً من أحد أصدقائه المصريين به كتاب باللغة العربية عن صدام حسين، وقد كتب اسم المؤلف ببُنط ذهبي عريض «روبرت فيسك» على غلافه ولأن الرجل لم يكتب الكتاب ولا علاقة له به أو بالمترجم المزعوم.

انفجرت هذه الفضيحة وتناولتها الصحف المصرية في الأسابيع الأخيرة خاصة بعد قدوم الصحافي الشهير إلى القاهرة لكي يغوص في متاهاتها باحثاً عن دار النشر التي نشرت الكتاب وعن المؤلف المتواري وعن سبب نسبة الكتاب إليه ثم عودته في النهاية إلى لندن خائباً وغاضباً لكي يكتب مقالاً عن هذه الواقعة في جريدة الإندبندنت.

المؤلف المتواري كان يبحث عن شهادة جودة تروج الكتاب وتضاعف تأثيره واختار على طريقة الجاحظ أن ينسب كتابه إلى غيره لكنه بسبب قصر نظره لم يدرك أن الجاحظ كان ينسب بعض كتبه إلى الكُتاب الموتى العاجزين عن الفضح والتكذيب والدفاع عن أنفسهم.

* كاتب وشاعر مصري

back to top