هكذا تأتي ذكرى الثاني من أغسطس، عالم غير مستقر، أمن أقل، تفاوت طبقي أكبر، حالة مزرية في النفاق السياسي.أما أولئك الأصدقاء الذين ذهبوا، فيعلم الله «أنكم محفورون في القلب والوجدان ومازلنا نشعر بعدكم بالعجز».للمرة الثانية منذ 1990 يأتي يوم الخميس موافقاً الثاني من أغسطس، وهذه هي المرة الثالثة التي يتطابقان فيها خلال سبعة عشر عاماً. كرهت دوماً ذكرى الاحتلال، فهي ذكرى خائبة، فاشلة، جاءت ودمرت وخربت ولا زالت حتى الساعة.
فخلاله ذهب إخوة لنا لم يعودوا، في يوم بائس من شهر اكتوبر في بيت لفّه الحزن بمنطقة النزهة ذهب يوسف ثنيان المشاري وعبدالوهاب المزين وعادل العبدالرزاق وغيرهم، وكان أن قدر الله لنا، الأخ الفريق محمد البدر وأنا وآخرين أن نفلت بأعجوبة. ذهبوا هكذا... فقط لأنهم قرروا أن يكونوا ملحاً للأرض.
يأتي الخميس الثاني من أغسطس ليذكرنا مرة أخرى بأن نزق الإنسان وطيشه وأنانيته تدفع للأذى المستمر، ويظل عالمنا حتى اليوم عالماً يسوده الأشقياء والقساة والجبابرة والقتلة والمجرمين أوكما يراهم البعض الأبطال. ويظل عالمنا يمجد القساة ويرفع إلى العلياء اولئك الذين يفتكون بالآخرين بحجة حماية الوطن ورفعته أو بحجة الدفاع عن القيم والدين، وأي وطن ذاك الذي يبنى على الجماجم وعويل الضعفاء وبكاء المهمشين.
يأتي يوم الخميس الثاني من أغسطس ليشعرنا بالهزيمة، فمتى يارب يستقر هذا العالم ويكف الجبابرة عن جبروتهم وطغيانهم؟ فتاريخ البشرية ممتلئ بالعذاب والألم والمجد لمن رفع الجماجم على أسنة الرماح. التاريخ يخلد فقط الذين يملؤون الأرض دماً وألماً لبناء حضارة. يتساوي في ذلك الجميع الفاشيون والنازيون والاسلامويون والشيوعيون والبعثيون والليبراليون... فشل الجميع في أن يجعلوا عالمنا اليوم أكثر استقراراً وأمناً فجاءت النتيجة.. لم ينجح أحد.
الزمن الغائب عن أعيننا سيبقي غائباً، وكلما خطونا، أو ظننا أننا خطونا خطوة للأمام، بددت القوة المستبدة ما ظنناه كان خطوة.. فتحيله سراباً ويبقى أولئك الذين يظنون أنهم يحتكرون الحقيقة سادة للعالم.. وسحقا لرموز الإنسانية.. والسلام، فهم ليسوا إلا «ضعفاء» و«سُذّجا».
«لا يدركون معنى القوة»، فرموز الإنسانية ليس لهم مكان في التاريخ، ولا مكان لهم بين بني الإنسان فمكانهم في موقع آخر غائب.. وسيظل غائباً.
ألم يئن الأوان بعد آلاف السنين لأن يستمع أولئك السياسيون والاستراتيجيون والعسكريون إلى التردي الحاصل في العالم وتدهور كرامة الإنسان وقيمته، وأن نقطة الانطلاق لا تبدأ إلا بوضع كرامة الإنسان أولاً. يُراد لنا أن نقبل أن يقود الغرب العالم نحو السلام وكرامة الإنسان وانه غير منافق، وفي المقابل يُراد لنا أن نقبل بأن من يفجر نفسه في جمهور من المدنيين علي حق وأن مثواه الجنة. في أي عالم مجنون نعيش؟
هكذا تأتي ذكرى الثاني من أغسطس، عالم غير مستقر، أمن أقل، تفاوت طبقي أكبر، حالة مزرية في النفاق السياسي.
أما أولئك الأصدقاء الذين ذهبوا، فيعلم الله «أنكم محفورون في القلب والوجدان ومازلنا نشعر بعدكم بالعجز».
عندما أُسرنا، سعود العنزي وأنا، لم نكن ندري حينها متى وكيف سنعود؟
لم نكن للحظة نشعر أننا كنا تحت الاحتلال، بل كما قال صاحبنا مسفر الدوسري كنا فوق الاحتلال، كنا نتصور أننا ربما سنلتقي بأولئك الأصدقاء في غيابة جب أو في أحد الأقبية اللزجة تحت «بسطار» جائر، ولكننا لم نلتقِ... سامح الله تلك الفرصة الضائعة... فلن تعود.
وعندما التقيت عبداللطيف المسعد عندما كنا ننظم رحلات أهالي الأسرى، وقبل أن يتم أسري في سجن بعقوبة حدثني كيف انه عندما اعتقل وأركبوه احدى الشاحنات المتجهة شمالاً بعيداً... بعيداً عن الكويت.. كان يرى الكويت تبتعد .. تبتعد وتغيب الصورة شيئاً فشيئاً... حينها يقول عبداللطيف .. لم أبكِ عندما توفي والدي... أما تلك اللحظة التي غابت فيها الصورة ورأيتني ابتعد تدريجيا عن الكويت وجدتني اجهش بالبكاء .. وأبكاني معه. ذكرى ا لغزو... هي ذكرى البكاء... ذكرى الذين راحوا ولن يعودوا .. فليرحمنا الله جميعا.
فلسنا إلا أشباه بشر .. كائنات خاوية من المضمون.