تسبب نزاع البوليساريو في عرقلة قيام «الاتحاد المغاربي العربي» وإضعاف التعاون الاقتصادي، وانخفاض معدل الاستثمارات الأجنبية وانتشار عمليات التهريب للمخدرات ،وغيرها في منطقة النزاع وما يحيط بها.
أقدم المغرب مؤخراً على تقديم اقتراح لضمان «الحكم الذاتي لإقليم الصحراء»، لكن البوليساريو دعت إلى «إعلان الاستقلال» مع ضمانات لحماية «مصالح» المغرب. وكان مجلس الأمن الدولي أصدر قراراً في 30 أبريل 2007 دعا فيه إلى إجراء مفاوضات بين الفرقاء.
ورغم أن مفاوضات جديدة بدأت في 18 يونيو بين المغرب والبوليساريو، وستستمر لاحقاً في شهر يوليو، فإن هذه البؤرة المستديمة للنزاع ما تزال تحتفظ بحيويتها وديناميكيتها رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود ونيّف على اندلاع النزاع، خصوصاً بإعلان «جمهورية الساقية الحمراء ووادي الذهب»، البوليساريو اختصاراً.
قدِّرَ لي قبل أكثر من ربع قرن من الزمان أن أزور البوليساريو في دعوة رسمية بمناسبة ذكرى إعلان الجمهورية الصحراوية. ولعل فضولي سبقني اليها. ذهبت إلى الجزائر مع عدد من الشخصيات العربية والدولية المدعوّة، وهي تمثل زعامات سياسية وأصحاب رأي وإعلاميين. ومن الجزائر العاصمة نقلتنا الطائرة إلى مدينة «تندوف» الحدودية، ومنها بسيارات رانج روفر على ما أتذكر وبمرافقات صحراويات بلغة عربية سليمة، إلى «الأراضي المحررة»!
في الطريق المفتوح، الذي يضم هضاباً ومرتفعات، كان صاحبي «الألماني» يسأل المرافِقة: متى سنصل؟ وكانت تجيبه على طريقتها المحاذِرة: «بعد حين».. ويعود إلى السؤال: وأي طريق سنسلك... هل باتجاه الشمال أو الشرق؟ وكانت تجيبه: أظنه الطريق الصحيح، نتحاشى الغارات الجوية.
بعد نصف ساعة تقريباً، توقف السائق فجأة، ثم نزل من السيارة ووضع أذنه على الأرض، ودعانا للإسراع بمغادرة السيارة، وخاطبنا بالقول: انتشروا! نزلنا نركض ونحن نرتدي لباس الطوارئ، الذي نغطي به رؤوسنا، وسمعنا بعد دقيقتين هدير الطائرات ونحن منبطحون على الأرض. بعدها وضع السائق أذنه ثانية على الأرض، وقام ليدعونا إلى ركوب السيارة لمواصلة المسير.
أصابنا الذهول، وخصوصاً أصدقاءنا الأجانب، الذين يدفعهم حب المعرفة والفضول العلمي، إضافة إلى ما سيقدمونه من معلومات سياسية وغير سياسية لرؤسائهم.
بعد نصف ساعة أخرى من المسير، أخرج الألماني بوصلة من جيبه وحاول توليفها، ثم همس بأذني: إننا ندور في هذه الصحارى، وإننا لسنا بعيدين عن مكان انطلاقنا حين قيل لنا إننا عبرنا الحدود!
مكثنا في الخيام بضعة أيام، والتقينا خلالها بمسؤولين من جمهورية البوليساريو، كما استقبلنا الرئيس الحالي محمد بن عبد العزيز، الذي كان حينها رئيساً للوزراء، وروى لنا المقلب الذي حصل له مع حكومة بغداد، حيث كان في جولة يسعى الى الحصول على دعم سياسي واعتراف بالجمهورية «قيد الولادة»، وإذا بهم يقترحون عليه مساعدة عسكرية ويطلبون منه قائمة تفصيلية!
وبعد انتظار وأخذ ورد يتسلّم الوجبة الموعودة ويتحمل هو شخصياً، كما قال، مخاطر نقلها عبر الحدود الموريتانية وعلى ظهور الجمال، ليكتشف الحقيقة المرّة وإذا بها كتب وكراريس وخطابات سياسية لقيادات الدولة العراقية وحزب البعث.
استذكر هذه الحادثة وقد مضى أكثر من ثلاثة عقود ونيّف على تصاعد النزاع لدرجة بدا وكأنه مستديماً ومعتّقاً، وللأسف لا يلوح حتى الآن أفق لإيجاد حل معقول، فأطراف النزاع وفرقاؤه
مازالوا عند مواقفهم، التي لم تتغيّر من حيث الجوهر.
لقد استنزف هذا النزاع الفرقاء جميعاً بشرياً ومادياً ومعنوياً ودبلوماسياً، خصوصاً المغرب والبوليساريو، ودفعت الجزائر أثماناً باهظة لوجود نزاع دائم وبؤرة توتر على حدودها الغربية، أما موريتانيا فلم يكن حظها بأحسن حال، خصوصاً وقد ساهم هذا النزاع في حدوث الانقلاب العسكري في العام 1978. وكانت تكلفة النزاع عالية جداً لدول منطقة المغرب العربي، إذ تسبب في عرقلة قيام «الاتحاد المغاربي العربي»، وإضعاف التعاون الاقتصادي، وانخفاض معدّل الاستثمارات الأجنبية، وانتشار عمليات التهريب للمخدرات وغيرها في منطقة النزاع وما يحيط بها.
وللأسف الشديد فإن الأمم المتحدة، التي كان يمكنها أن تلعب دوراً إيجابياً في إطفاء بؤرة التوتر هذه، كانت جزءاً من المشكلة، خصوصاً مقاربتها باعتبار النزاع شكلا من أشكال إنهاء الاستعمار، وعدم إصرارها على إجراء الاستفتاء المنشود، في حين يستمر دفع الثمن باهظاً من جميع الفرقاء بما يضع مجلس الأمن عند مسؤولياته لحماية السلم والأمن الدوليين وتشجيع الفرقاء على التفاوض حول شروط الاتفاق وقواعده، إذ لم يعد إنسانياً وسياسياً واقتصادياً ودولياً استمرار هذا النزاع إلى ما لا نهاية!
* كاتب ومفكر عراقي